عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

   

أما ذكر رب العالمين للنبي خاتم المرسلين   باسمه أحمد فقد ورد في قوله تعالى 

 

(وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * (الصف : 6 )
 
قال ابن كثير رحمه الله :
قوله تعالى : (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) يعني: التوراة قد بشرت بي، وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشر بمن بعدي، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى، عليه السلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشرا بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة.
وما أحسن ما أورد البخاري الحديث الذي قال فيه:
*حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: سمعت رسول الله   يقول: "إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
-ورواه مسلم، من حديث الزهري، به نحوه .
*وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى قال: سمى لنا رسول الله   نفسه أسماء، منها ما حفظنا فقال: "أنا محمد، وأنا أحمد، والحاشر، والمقفي، ونبي الرحمة، والتوبة، والملحمة".
ورواه مسلم من حديث الأعمش، عن عمرو بن مرة، به .
 وقد قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف : 157 )
وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران : 81 )
-قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد: لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد   وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه.
-وقال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله   أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام" .وهذا إسناد جيد.
 وروي له شواهد من وجوه أخر، فقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله   : "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين" .
-وقال أحمد أيضا: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا لقمان بن عامر قال: سمعت أبا أمامة قال: قلت يا نبي الله، ما كان بدء أمرك؟ قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام".
-وقال أحمد أيضا: حدثنا حسن بن موسى: سمعت خديجا أخا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود قال: بعثنا رسول الله   إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا منهم: عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بنعرفطة وعثمان بن مظعون، وأبو موسى. فأتوا النجاشي... وبعثت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إن نفرا من بني عمنا نـزلوا أرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا. قال: فأين هم؟ قالا هم في أرضك، فابعث إليهم. فبعث إليهم ... فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم. فاتبعوه فسلم ولم يسجد؛.. فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك؟  قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل. قال وما ذاك؟ قال: إن الله بعث إلينا رسوله، فأمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة....قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم. قال: ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه؟ قالوا: نقول كما قال الله عز وجل: هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول، التي لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد. قال: فرفع عودا من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه، ما يساوي هذا. مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم. انـزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه. وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرا، وزعم أن النبياستغفر له حين بلغه موته...
وقد رويت هذه القصة عن جعفر وأم سلمة رضي الله عنهما، وموضع ذلك كتاب السيرة. والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها، وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث. وكان ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم :(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (البقرة : 129 ) ، وكذا على لسان عيسى ابن مريم؛ ولهذا قالوا: "أخبرنا عن بدء أمرك" يعني: في الأرض، قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى ابن مريم، ورؤيا أمي التي رأت" أي: ظهر في أهل مكة أثر ذلك والإرهاص بذكره صلوات الله وسلامه عليه.
 
*وقوله: (فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) قال ابن جريج وابن جرير: فلما جاءهم أحمد، أي: المبشر به في الأعصار المتقادمة، المنوه بذكره في القرون السالفة، لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون: هذا سحر مبين
(ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين * يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون *)
يقول تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام) أي: لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ويجعل له أندادا وشركاء، وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص؛ ولهذا قال:(والله لا يهدي القوم الظالمين)
ثم قال:
(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) أي: يحاولون أن يردوا الحق بالباطل، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل كذلك ذاك مستحيل ؛ ولهذا قال:(والله متم نوره ولو كره الكافرون* هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين في سورة "براءة"، بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة/
 قال عند تفسير قوله تعالى "(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ () (التوبة :  32+33 )
  يقول تعالى: يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب {أن يطفئوا نور الله} أي ما بعث به رسول الله   من الهدى ودين الحق بمجرد جدالهم وافترائهم فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفىء شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه وهذا لا سبيل إليه فكذلك ما أرسل به رسول الله   لابد أن يتم ويظهر ولهذا قال تعالى مقابلاً لهم فيما راموه وأرادوه: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} والكافر هو الذي يستر الشيء ويغطيه ومنه سمي الليل كافراً لأنه يستر الأشياء والزارع كافراً لأنه يغطي الحب في الأرض كما  قال { َكمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ) (الحديد : 20 ) }
ثم قال تعالى {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} فالهدى هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع ودين الحق هي الأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والاَخرة.
{
ليظهره على الدين كله} أي على سائر الأديان كما ثبت في الصحيح عن رسول الله   أنه قال: «إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها»,
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن محمد بن أبي يعقوب سمعت شقيق بن حيان يحدث عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول: صلى هذا الحي من محارب الصبح فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله   يقول: «إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها, وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة»,
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثنا سليم بن عامر عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله   يقول «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار, ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزاً ويذل ذليلاً, عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر» فكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم حدثني ابن جابر سمعت سليم بن عامر قال سمعت المقداد بن الأسود يقول سمعت رسول الله   يقول «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام يعز عزيزاً, ويذل ذليلاً إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها, وإما يذلهم فيدينون لها»
وفي المسند أيضاً حدثنا محمد بن أبي عدي عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبي حذيفة عن عدي بن حاتم سمعه يقول دخلت على رسول الله   فقال: «يا عدي أسلم تسلم» فقلت إني من أهل دين قال: «أنا أعلم بدينك منك» فقلت أنت أعلم بديني مني ؟ قال: «نعم ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك ؟ قلت: بلى! قال: «فإن هذا لا يحل لك في دينك» قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها, قال: «أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام, تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب أتعرف الحيرة ؟» قلت لم أرها وقد سمعت بها, قال: «فو الذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز» قلت: كسرى بن هرمز ؟ قال: «نعم كسرى بن هرمز, وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد» قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد, ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز, والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله   قد قالها.
وقال مسلم: حدثنا أبو معن زيد بن يزيد الرقاشي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله   يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» فقلت: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} , أن ذلك تام, قال: «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل, ثم يبعث الله ريحاً طيبة فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم».
 
قال السعدي رحمه الله :
 يقول تعالى مخبرا عن عناد بني إسرائيل المتقدمين ، الذي دعاهم عيسى ابن مريم ، وقال لهم : " يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم " ، أي : أرسلني الله لأدعوكم إلى الخير ، وأنهاكم عن الشر ، وأيدني بالبراهين الظاهرة ، ومما يدل على صدقي ، كوني " مصدقا لما بين يدي من التوراة " ، أي : جئت بما جاء به موسى من التوراة ، والشرائع السماوية . ولو كانت مدعيا للنبوة ، غير صادق في دعواي ، لجئت بغير ما جاء به المرسلون ، ومصدقا لما بين يدي من التوراة أيضا ، أنها أخبرت بي وبشرت ، فجئت وبعثت مصدقا لها " ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " ، وهو : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي . فعيسى عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء ، يصدق بالنبي السابق ،ويبشر بالنبي اللاحق ، بخلاف الكذابين ، فإنهم يناقضون الأنبياء أشد مناقضة ، ويخالفونهم في الأوصاف والأخلاق ، والأمر والنهي . " فلما جاءهم " محمد   الذي بشر به عيسى " بالبينات "، أي : الأدلة الواضحة ، الدالة على أنه هو ، وأنه رسول الله حقا .    " قالوا " معاندين للحق مكذبين له : " هذا سحر مبين " ، وهذا من أعجب العجائب . الرسول الذي قد وضحت رسالته ، وصارت أبين من شمس النهار ، يجعل ساحرا بينا سحره ، فهل في الخذلان أعظم من هذا ؟ وهل في الافتراء أبلغ من هذا الافتراء ، الذي نفى عنه ما كان معلوما من رسالته وأثبت له ما كان أبعد الناس عنه ؟ " ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب " بهذا أو غيره ، والحال أنه لا عذر له ، وقد انقطعت حجته ، لأنه " يدعى إلى الإسلام " ، وتبين له براهينه وبيناته . " والله لا يهدي القوم الظالمين " الذين لا يزالون على ظلمهم مستقيمين ، لا تردهم عنه موعظة ، ولا يزجرهم بيان ولا برهان . خصوصا هؤلاء الظلمة القائمين بمقابلة الحق ليردوه ، ولينصروا الباطل ، ولهذا قال عنهم : " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم " ، أي : بما يصدر منهم من المقالات الفاسدة ، التي يردون بها الحق ، وهي لا حقيقة لها ، بل تزيد البصير معرفة بما هم عليه من الباطل . " والله متم نوره ولو كره الكافرون " ،أي : قد تكفل الله بنصر دينه ،وإتمام الحق ، الذي أرسل به رسله ، وإظهار نوره في سائر الأقطار ،ولو كره الكافرون ، وبذلوا بسبب ـ كراهته ـ كل ما قدروا عليه ، مما يتوصلون به إلى إطفاء نور الله ، فإنهم مغلوبون . ومثلهم كمثل من ينفخ عين  الشمس بفيه ليطفئها ، فلا على مرادهم حصلوا ، ولا سلمت عقولهم من النقص والقدح فيها . ثم ذكر سبب الظهور والانتصار للدين الإسلامي ، الحسي والمعنوي فقال ، " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق " ، أي : بالعلم النافع ، والعمل الصالح . بالعلم : الذي يهدي إلى الله ، وإلى دار كرامته ، ويهدي لأحسن الأعمال والأخلاق ، ويهدي إلى مصالح الدنيا والآخرة . "ودين الحق " ، أي : الدين الذي يدان به ، ويتعبد لرب العالمين الذي هو حق وصدق ، لا نقص فيه ، ولا خلل يعتريه ، بل أوامره غذاء القلوب والأرواح ، وراحة الأبدان . وترك نواهيه سلامة من الشر والفساد ، فما بعث به النبي   من الهدى ودين الحق ، أكبر دليل وبرهان على صدقه ، وهو برهان باق ، ما بقي الدهر ، كلما ازداد العاقل تفكرا ، ازداد به فرحا وتبصرا . " ليظهره على الدين كله " ، أي : ليُعلِيَّه على سائر الأديان ، بالحجة والبرهان ، ويظهر أهله القائمين به ، بالسيف والسنان . فأما نفس الدين ، فهذا الوصف ، ملازم له في كل وقت ، فلا يمكن أن يغالبه مغالب ، أو يخاصمه مخاصم إلا فلجه ، وصار له الظهور والقهر ، وأما المنتسبون إليه ، فإنهم إذا قاموا به ، واستناروا بنوره ، واهتدوا بهديه ، في مصالح دينهم ودنياهم ، فكذلك لا يقوم لهم أحد ، ولا بد أن يظهروا على أهل الأديان . وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه ، لم ينفعهم ذلك ، وصار إهمالهم له ، سبب تسليط الأعداء عليهم . ويعرف هذا ، من استقرأ الأحوال والنظر ، في أول المسلمين وآخرهم ...
قال البغوي رحمه الله :
قوله تعالى: "وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد"، الألف في " أحمد"  للمبالغة في الحمد، وله وجهان: أحدهما: أنه مبالغة من الفاعل، أي الأنبياء كلهم حمادون لله عز وجل، وهو أكثر حمداً لله من غيره، والثاني: أنه مبالغة في المفعول، أي الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو  أكثرهم مبالغة وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها....



                      المقال السابق




Bookmark and Share


أضف تعليق