عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

   

‏حدثنا ‏ ‏عبد الله بن يوسف ‏ ‏أخبرنا ‏ ‏مالك ‏ ‏عن ‏ ‏هشام بن عروة ‏ ‏عن ‏ ‏أبيه ‏ ‏عن ‏ ‏عائشة ‏ ‏رضي الله عنها ‏ ‏قالت 
‏جاءتني ‏ ‏بريرة ‏ ‏فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام وقية فأعينيني فقلت إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت ‏ ‏بريرة ‏ ‏إلى أهلها فقالت لهم فأبوا ذلك عليها فجاءت من عندهم ورسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏جالس فقالت إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فأخبرت ‏ ‏عائشة ‏ ‏النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فقال خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما ‏ ‏الولاء لمن أعتق ففعلت ‏ ‏عائشة ‏ ‏ثم
قام رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق ‏ 

 

شرح الخطبة

حرص الإسلام كل الحرص على حرية الإنسان، وحارب الاسترقاق، وحث على تحرير وعتق الرقاب، وأوجبه في مواطن كثيرة، ومنع طرق الاسترقاق إلا طريقاً واحداً، وهو طريق الجهاد، بينما فتح أبواب العتق، وعددها، ونوعها، وجعل لها أحكاماً، ومن أسباب العتق التي شرعها الإسلام المكاتبة.

حديث: (إني كاتبت أهلي على تسع أواق...)

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فقال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة ، فقالت: (إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني قد عرضتُ ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة رضي الله عنها، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله تعالى؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) متفق عليه، واللفظ للبخاري ، وعند مسلم قال: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء) ]. هذا الحديث يعتبر من أمهات الأحاديث: صيغة، وأحكاماً، وتشريعاً، وكما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان في بريرة ثلاث سنن، وبريرة كانت مزوجة برجل اسمه مغيث وكان يحبها، وكان مملوكاً، وهي مملوكة فعتقت بعد أن اشترتها عائشة ، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت مملوكة تحت مملوك: متعادلان، والآن أصبحت حرة، وهو مملوك، فهنا اختل التوازن واختل التعادل، والكفء يجب أن يكون مكافئاً لزميله، والعبد لا يكافئ الحرة، لكن نظراً للعقد المتقدم، قال لها: (أنت لك خيار، إن شئت بقيت على عقدك مع المملوك، وإن شئت فسخت نكاحك بالحرية) فاختارت نفسها، فكان مغيث يتبعها في الطرقات ويبكي، يدريها أن ترد نفسها إليه، فبلغ ذلك الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: (يا بريرة ! انظري لحال مغيث -فعلمتنا الأدب- فقالت: يا رسول الله! أشافع أنت أم آمر؟) انظر الأدب: تشفع لـمغيث عندي، وتكون شفيعاً، والشفيع قد تقبل شفاعته وقد ترد، أو آمر لي بالعودة إليه، والأمر يقتضي الوجوب، (أشافع أنت أم آمر؟ -ماذا قال لها؟- قال: لا، أنا شافع)، فقالت: (لا حاجة لي فيه) وقولها هذا يساوي: أرد شفاعتك، لكن بأدب. ......

 

أهمية حديث بريرة

 

هذا الحديث النبوي الشريف، من الأحاديث العظيمة، وقد اشتمل على العديد من الأحكام، وخاصة: الشروط في البيع، وما يتعلق بالمكاتبة، وبيع المكاتب، وحكم الولاء، والاشتراط فيما لا يوافق كتاب الله إلى آخره، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله -مؤلف كتاب فتح الباري-: أن بعض العلماء عني بهذا الحديث وذكر ما يستنبط منه، فذكر عن ابن خزيمة أنه ذكر فيه مائة مسألة، و ابن خزيمة : ذكر عن غيره أنه قال: اشتمل على أربعمائة مسألة فقهية، وهل بعضها يتداخل مع بعض أو لا يتداخل؟! الذي يهمنا شدة عناية العلماء بهذا الحديث. والواقع أنه جدير بذلك، ونمضي مع هذا السياق كلمة كلمة، فهنا يقول المؤلف رحمه الله: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (جاءتني بريرة) مجيء بريرة من بيت أهلها إلى بيت عائشة فيه كلام؛ فـبريرة أمة وجارية وكانت تخرج لخدمةعائشة قبل مكاتبتها لأهلها، فهي تعرف عائشة من قبل، وهي التي قالت -حينما خاض الناس في حديث الإفك وسأل النبي صلى الله عليه وسلم علياً فقال: سل الجارية تخبرك- قالت: والله! إنها لجارية، ولا أعيب عليها إلا أنها تعجن العجين وتنام عليه، حتى تأكله الدواجن، يعني صغيرة لا تدري عن شيء، فلما كاتبت أهلها قامت تسعى.

 

حكم المكاتبة ومعناها

قال الله تعالى: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] ويقول العلماء: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا  خيراً هنا عام: خيراً في السلوك، وخيراً من نظير قوله: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ [البقرة:180]، يعني: إن علمتم أنهم يستطيعون أن يدفعوا المكاتبة. وأصل المكاتبة: أن يريد السيد مالاً، ويريد أن يبيع العبد، أو المملوك، والمملوك لا يريد أن يخرج من رق إلى رق، ويريد أن يشتري نفسه، أي: يعوض سيده عما يقبضه من ثمن من سيد آخر، وينتقل من سيد إلى سيد، فيكاتبه ويتفق معه على مقدار معين، ويشترط في الكتابة أن يكون الثمن منجماً، وأصل النجم لغة: الكوكب في السماء، وهي النجوم المنتشرة في السماء، والعرب تسمي الأجل نجماً، حتى حمل بعض العلماء قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1] قالوا: نزول القرآن منجماً، يعني: على فترات، وكانت العرب إذا استدانت كتبت الوفاء عند ظهور النجم الفلاني، وهم يعرفون مسيرة النجوم ومواقعها، وهذا من بعض علومهم العامة. ويستحب أن يسامح سيد العبد المكاتب في القسط الأخير أو بعضه، فـبريرة كاتبت أهلها على ما ذكرت لنا تسع أواق، كل سنة أوقية، يعني منجمة على تسعة أنجم، والمكاتب من حقه أن يسعى ويطلب، ويحق له الطلب والسؤال، وله من الزكاة حصة قال تعالى: وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60]، فيأخذ من الزكاة جزءاً ليكمل به ما نقص عليه من الدين في مكاتبته. وهنا جاءت بريرة إلى عائشة فقالت: أعينيني في النجم الذي سيأتي ، وليس في التسعة الأنجم، وبعضهم يقول: إن بريرة جاءت عند العقد، ولم تكن قد دفعت لا قسطاً ولا نجماً، وبعضهم يقول: لقد دفعت أربعة أنجم، وبقي عليها خمسة أنجم، فجاءت تستعين عائشة رضي الله تعالى عنها، وكل ذلك يؤخذ من حديث بريرة في شأن المكاتبة.

 

لا يشترط استئذان الزوج في المكاتبة

 

بريرة لها زوج، والمكاتبة إذا أوفت ما عليها من دين الكتابة تحررت، وإذا تحررت خُيرت في نكاحها، فهل يُستأذن زوجها صاحب العصمة في مكاتبتها -لأن المكتابة ستخرجها من عصمته- أو لا يُستأذن؟ بريرة ما ذكرت أنها استأذنت من مغيث ، إذاً: المكاتبة حق لها، وبه تستكمل حريتها، والشرع يحث على تحرير الرقاب، فلم يدع الأمر لرأي الزوج، فإن وجدت المكاتبة بنفسها فلا تستشير زوجها، ولا يؤخذ رأيه.

 

المكاتبة في عصمة الزوج ما بقي عليها درهم

وكذلك مجرد الكتابة لا يُخرجها من ذمة وعصمة الزوج، ولكن تبقى على عصمة زوجها حتى توفي جميع المكاتبة، والمكاتب: عبد ما بقي عليه درهم، وللسيد أن يعجز مكاتبه، فمثلاً تكاتبا على تسعة أقساط، فدفع ثمانية أقساط، فليس له الحق أن يقول: أنا تراجعت، أنا لا أريد مكاتبة، ويرجع المكاتب في رقه من جديد، وقد أخذ الثمانية الأقساط، ويقول: العبد وما ملكت يمينه لسيده! وقد كنت قبل المكاتبة تسعى وتعمل وتعطيه للسيد! وقد جاء النهي عن كسب الأمة وهو عام، حتى في الخدمة مخافة إذا فرض عليها شيء يومي: من غزل من غسل من.. من..، ولم تجد المقرر عليها يومياً، فربما لجأت إلى طريق غير سليم، وبعضهم يقول: إذا كان عندها صنعة، أو استطاعت أن تعمل، وقد فرض عليها السيد مقداراً معيناً في كل يوم، واستطاعت أن تأتي به يومياً أو أكثر فالأكثر لها، والذي شارطها عليه له، فهذه كاتبت ولم يؤخذ رأي الزوج في ذلك، وعقد المكاتبة لم يخرجها من عصمة الزوج، فجاءت في طريقها لتكمل عملية المكاتبة.

 

جواز المسألة للمكاتب

 

جاءت إلى عائشة -لأنها تعرفها من قبل- فطلبت منها المساعدة، وهكذا كل مكاتب له الحق بأن يسأل ويسعى، ويأخذ من الصدقات والزكاة، فـعائشة قالت: إن كان أهلك كاتبوك على تسع أواق في تسع سنوات، فأنا مستعدة أن أعدها، يقف العلماء عند كلمة (أعدها) قالوا: لأن عُرف الحجاز حين بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان عد الدراهم، وبعد مجيئه كان الوزن، والآخرون يقولون: بل العكس؛ لأنه جاء في الحديث: (المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة)، ووحدوا المكيال والميزان حتى إذا اختلفوا في الوزن رجعوا إلى عرف مكة، وإذا اختلفوا في الكيل رجعوا إلى عرف المدينة؛ لأن أهل المدينة أهل تمور وحبوب، تحتاج إلى الكيل، وأهل مكة أهل تجارات فالوزن إليهم أقرب، فهنا قالت: أعدها، وفي بعض الروايات: أصبها لهم صباً، يعني: إذا كانوا كاتبوك مكاتبة منجمة على تسع سنوات فأنا الآن أعطيك، وفرق كبير عند البائع أن يبيع شيئاً مقسطاً إلى تسع سنوات وأن يأخذ الثمن حالاً، فالمال لا نقص فيه، بل إن البائع بالتقسيط، لو وجد المبلغ كاملاً (حالاً) ولو بناقص كان أربح له، فهي تقول لهم: المنجم بعيد، وأنا أعطيكم إياها الآن كاملة، ويكون الولاء لي.

 

الولاء

 

الولاء مبحث مستقل، وأوسع ما يكون في الفرائض، وهو كما يقولون: وصف اعتباري سببه نعمة العتق، والولاء بين المعتق والمعتق لحمة كلحمة النسب، ينسب إليه ولا يُباع ولا يوهب ولا يورث، إنما ينتقل بالعصوبة، فلو أن إنساناً أعتق عبداً صار له الولاء، ثم مات عن زوجة وولد، فالزوجة ليس لها شيء في هذا الولاء؛ لأنها إذا دخلت الزوجة دخلت بالميراث، ولكن ينتقل الولاء للولد؛ لأن الولد حل محل أبيه، فالولاء لا يوهب ولا يباع ولا يورث، مع أن الميراث كسب إجباري على الوارث، والولاء كما يقولون: الدرجة الثالثة في مراتب الميراث؛ لأنه يُقدم أولاً: صاحب الفرض، وثانياً: العاصب، وثالثاً: الولاء؛ (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى ذكر ) أي: عاصب، فإذا مات الميت، وعنده من يرث بالفرض، وأخذوا فروضهم، فالباقي للعاصب، فإذا لم يوجد عاصب ووجد صاحب الولاء، فأصحاب الفروض أخذوا نصيبهم بفروضهم، ولما لم يوجد عاصب بالنسب جاء العاصب بالولاء، ولهذه القوة قالت عائشة : (ويكون ولاؤك لي)، وهو وصف اعتباري يلزم المعتَق طيلة حياته، وحتى موالي مواليه، يكونون موالي للمعتِق الأول، فقالت: أذهب وأخبرهم، فذهبت بريرة لتخبرهم أنعائشة مستعدة أن تدفع لكم كل الباقي، وأن يكون الولاء لها، قالوا: لا، وحقيقة المكاتب لو استمر في المكاتبة، وأوفى الكتابة لسيده؛ صار حراً، وولاؤه للمكاتب؛ لأنه هو الذي تسبب في عتقه، فهم كاتبوها ليكون الولاء لهم، وهنا قالت عائشة : (أدفع لهم، لا أن تدفع لـبريرة، فلو دفعت لـبريرة لكانت مساعدة لـبريرة على المكاتبة، ولا دخل لها في الولاء، ولكن تدفع لأسيادها الذين كاتبوها، إذاً: دخول عائشة سينسخ المكاتبة، ويُغير العقد إلى بيع، كما جاء في الرواية (اشتريها وأعتقيها)؛ لأنه لا يتم لها عتقها إلا بعد أن تمتلكها، فلو دفعت لـبريرة لم تمتلكها بهذا الدفع، أما إذا دفعت لأسيادها فقد اشترتها منهم، وإذا اشترتها وأعتقتها فالولاء لمن أعتق، فأبوا، وقالوا: لا، إن كانت تريد أن تدفع محسنة فالمحسن لوجه الله، أي: تحسن إليك، ويكون الولاء لنا، فلما أبوا رجعت ثانية إلى عائشة تخبرها، وصاحب الحاجة ملحاح فهي تريد أن تنجز أمرها، في مجيئها الأول لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً، ولما ذهبت وسألت أهلها ورجعت كان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً، وفي بعض الروايات: (فسارتها في أذنها، ) بريرة لا تحب أن تُسمع الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى هذه الحركة والوشوشة قال: (ما شأن هذه المرأة؟) وعائشة رضي الله تعالى عنها -كما في بعض الروايات- لما أخبرتها برفضهم، وقولهم: فلتحسن، قالت: لا، ورفعت صوتها؛ لتسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما شأن هذه المرأة؟) وسواءً الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ابتداءً، أو نتيجة لرفع عائشة صوتها. وهنا أيضاً: وقفة رب البيت، يرى امرأة تدخل بيته وتُسار زوجه! فمن حقه أن يسأل: ما شأنها؟ ولاسيما في هذه الآونة، فحينما تدخل امرأة أجنبية أو غريبة وتُسار الزوجة أمام زوجها أو علم بعد ذلك، فله أن يسأل: ماذا تكون هذه المرأة؟ هل هي صالحة أم طالحة؟ فمن حق رب البيت أن يسأل عن مجيء تلك المرأة، وعن غرضها، حفاظاً على بيته، فقال: (ما بال هذه المرأة؟) فأجابته عائشة : جاءتني وطلبت مني كذا، وأرسلتها ورجعت. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف الخبر، ثم أخبرتعائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا يتصرف الرسول صلى الله عليه وسلم: لا عليك: (اشتريها) لم يقل: أعينيها في المكاتبة، ولكن قال: (اشتريها) وفي بعض الروايات: (خذيها)، تأخذها بماذا؟ تأخذها بالشراء: (اشتريها وأعتقيها).

 

الشروط الباطلة غير معتبرة ولو كانت مائة شرط

 

بالشراء يصح أن تعتق؛ لأن العتق فرع عن الملك، وهنا وقفة خطيرة في قوله: (اشترطي لهم الولاء)، كيف تشترط لهم الولاء عندما تشتريها وحقيقة الأمر أنه: ليس لهم ولاء؟! هل نعبر عن هذا بمغايرة الواقع؟! في غير بيت النبوة نقول: هل هذا خداع للبائع؟ لأنه تساهل معك، وباعك على أن الولاء لهم، والولاء جزء من الثمن، فحينئذ تقول: نعم لك الولاء، ثم ترجع وتقول: ليس لك ولاء! فضيعت عليه الولاء! قالوا: هذا بعيد عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف يقول هذا الكلام؟! قالوا: لأنه سبق أن أعتقت رقاب عديدة، وأخبرهم سابقاً: بأن الولاء لمن أعتق، فكيف -مع علمهم المسبق- يريدون من عائشةأن تشتريها، وتعتقها، ولهم الولاء، على خلاف ما علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل؟ إذاً: بما أنهم اشترطوا شرطاً باطلاً، ويعلمون بطلانه، فهو تجاوز منهم للحد، والشرط الباطل لا اعتبار له، ولو كان مشروطاً في مجلس العقد، فاشترتها وأعتقتها، وهنا يجري التشريع العام، ولا تأثير لما أحدثوه من شرط باطل. إذاً: القضية بين أربعة أشخاص: سيد بريرة وبريرة وعائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: طرفا البيع والشراء، والسلعة، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي سمع الخبر، وهذا لا يكفي لإعلان الموضوع، وتأكيده؛ ولذا لما تم شراؤها وعتقها، وثبت الولاء لـعائشة -بمقتضى هذا الشراء- العتق صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر. وهنا تأتي رسالة منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت حاولت أن أجمع رسالة في القضايا الخطيرة التي عولجت على أعواد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي عظيمة وعديدة وكثيرة، هذا المنبر الذي أدى رسالة أعظم من أي منصة في أكبر جامعة، صعد النبي المنبر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُبلغ أمراً، أو يشرح أمراً، أو يعلم الناس شيئاً، قال: احضروا المنبر؛ فيعلم الناس بعضهم بعضاً، فيحضرون حول المنبر، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وهذا من شروط الخطبة وآدابها، ثم هل قال: -لماذا يا أهل بريرة! فعلتم؟! لا، - ولكن قال: (ما بال أقوام)، هم قوم فقط، وهم أهل بريرة ، ولكن عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ينبغي التشهير؛ لأن تسمية أشخاص بأعيانهم في صلب التشريع ليس مهماً، فأصحاب الكهف: ثلاثة ورابعهم، خمسة وسادسهم، سبعة وثامنهم، من هم؟ وما أسماؤهم؟! وما الذي يفيدنا من معرفة أسمائهم؟! بل الذي يفيدنا صلب القضية، وماذا كان منهم وعليهم، وهذا موسى يخاطب فتاه كما قال الله تعالى حاكياً عن موسى: قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا [الكهف:62]، وهو الذي سافر معه، وحمل الغداء؛ ولذا يقول ابن تيمية رحمه الله: الشخصيات، والعينيات التي لا تعلق لها بالتشريع، لم تسم؛ لأن أسماءها لا تزيد في التشريع شيئاً وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ [طه:17-18] من أي شجرة؟ لا نتدخل، وما طولها وما عرضها؟ لا نتدخل، عصا يتوكأ عليها. وهكذا (ما بال أقوام) الغرض بيان الحكم، وشرح القضية للناس، أما ما يتعلق بنوعية الأقوام والأشخاص والأفراد فهذا لا يغير في الموضوع شيئاً (ما بال أقوام)، وأقوام جمع قوم، والقوم في اللغة يطلق على الرجال، ولا يدخل فيه النساء، كما قال الشاعر: أقوم آل حصن أم نساء وكما في قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات:11] .. وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ [الحجرات:11]، فلفظ قوم يختص بالرجال، (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) يعني: ليست في كتاب الله بنصها وفرعها وكل موضوعها! يعني: ما بال أقوام يشترطون ولاءهم في عتق بريرة، وليس هذا النص في كتاب الله؟! كتاب الله لم يأت من أجلبريرة، ولا من أجل سعدة! إنما هو تشريع عام، ولكن كما يقول ابن حجر : يشترطون شروطاً ليست على نهج كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ويزيد البعض: وإجماع المسلمين، أبيعك هذا العبد بشرط ألا تعتقه أبداً، دعه عندك حتى يموت! لماذا؟ هذا يتنافى مع مقتضى العقد؛ لأنني بشرائي العبد امتلكته كامل الملك، وكمال الملك يعطيني الحق بأن أتصرف فيه تصرفاً كاملاً، ومن التصرف الكامل: أن أبيع، أن أهب، أن أعتق.. إلخ، لكن أبيعك عبداً بشرط أن تعتقه، هل عتق العبد في كتاب الله أم لا؟ في كتاب الله؛ لأن الشرع حث على تحرير العبيد. إذاً: القرآن جاء بعتق العبيد، لا بمنع العتق، فإذا اشترط عليك: أن تعتقه، كان شرطاً في كتاب الله،و إن اشترط ألا تعتقه كان شرطاً ليس في كتاب الله، وهكذا، يعني: ما بال أقوام يخترعون من عند أنفسهم شروطاً لم يأت بها دين الإسلام، كل شرط ليس في دين الله -ضعها محل كتاب الله، يتبين لك المعنى- كما جاء في الحديث الآخر: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود، كل شرط ليس في كتاب الله، أي: على مقتضى تشريع الله في كتابه، ولا على تشريع الله في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا على تشريع الله في إجماع علماء الأمة؛ فهو باطل، وإن كان مائة شرط. ويقولون: ذكر المائة هنا للمبالغة، فإذا كانت مائة شرط وهي مغايرة لكتاب الله فهي باطلة، أما لو كان شرطاً وشرطين فهل يقبل؟ لا، لا يقبل الباطل، كثيراً كان أو قليلاً، وقال: (قضاء الله أحق) أي: حكمه، وقضى ربك كذا، (قضاء الله أحق) أحق أفعل تفضيل من الحق ضد الباطل. وقوله: (وشرط الله أوثق)، شرط الله: ما أباحه الله وأجازه، فهو أوثق من الشروط الأخرى؛ لأن الشرط الصحيح ملزم وموثق وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الأنعام:152]، فالمؤمنون على شروطهم.

 

الولاء لمن أعتق

 

وقوله: (وإنما الولاء لمن أعتق)، كل ما تقدم مقدمة، ثم قال: (وإنما الولاء لمن أعتق)، وهذه جملة مبنية على يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، وهو اشتراطهم الولاء لهم، وإن لم يكونوا هم الذين أعتقوا، أي: اشتراطكم ذلك باطل، والصحيح أن الولاء لمن أعتق، سواء كان رجلاً أو كانت امرأة، أو كان عبداً مملوكاً، فلو كان عبداً مملوكاً وسمح سيده له بالاتجار، وامتلك العبيد، وأعتق، صار ولاء عبيده -الذين أعتقهم- له، فإن ماتوا، ولم يتركوا عاصباً، ورثهم بالولاء، مع أنه إذا مات أبوه، أو مات أخوه لا يرثه؛ لأنه مملوك، لكنه ورثهم بالولاء. وقوله: وعند مسلم قال: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء). (اشتريها) مثل كلمة: خذيها، ويبين أن هذا عقد جديد، وأن عقد المكاتبة قد أُلغي، وأن بريرة جاءت تطلب المساعدة، لكن تغير الموقف وانقلب إلى بيع وشراء: (اشتريها وأعتقيها)، فبناءً على شرائك إياها، ماذا كانت النتيجة؟ ماذا كانت نهاية بريرة ؟ عُتقت، وألغي شرط البائعين، وأصبحت معتوقة لـعائشة رضي الله تعالى عنها. تتمة لقضيتها، ألم نقل: إن ابن خزيمة ذكر عن فلان أنه أخذ أربعمائة مسألة فقهية من قصتها، فقصتها مهمة وليست عادية، فبعدما أُعتقت، وملكت نفسها، تتمة للحكم أخبرها صلى الله عليه وسلم أنها ملكت نفسها، وهي بالخيار بين بقائها زوجة بالعقد الأول، وبين اختيارها لنفسها، وينفسخ عقد الزواج بينهما برغبتهما. إذاً: قبل أن يبين لها، قال لها: (لا تعجلي) حفاظاً على العقد السابق، وعلى عقد الزوجية والحياة الزوجية، فاختارت نفسها. وهذا التخيير -في باب الطلاق، وكتب الفقه- موجود بين الزوجين الأحرار، ويسمى التخيير والتمليك، فإذا جاء الزوج وبينه وبين الزوجة وئام وعشرة طيبة، وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، ثم بدأ من الزوجة بعض النفرة، وهو لا يحب أن يطلقها ابتداءً من عنده، فيقول: نحن كالأخوين، وحياتنا مبنية على الكرامة، وحفظ المعروف، وأنا لا أتحكم لكوني أملك الطلاق -لأن الطلاق لمن أخذ بالساق- ولكن أُخيرك على ما أردتي، خيرتُك بيني وبينك، هذا التخيير يعطيها الحق بأن تقول: اخترتك، أو أن تقول: اخترت نفسي، فإن قالت: اخترتك، فيتفق العلماء على أن هذا التخيير الذي صدر منه لا يحتسب من الطلقات الثلاث؛ لأنه عرض عرضاً ولم يتم، وإن قالت: اخترت نفسي، فسخ النكاح، وهذا الفرق بين التخيير والتمليك، أقل ما ينفسخ به النكاح واحدة، أما التمليك، فيقول: ملكتك نفسك بطلقة بطلقتين بثلاث وبقدر ما ملكها تتصرف، فإن قال: ملكتك طلقة، فقالت: طلقت نفسي ثلاثاً، فبعض العلماء يقول: لم يحصل شيء؛ لأنه أعطاها واحدة وطلقت الثلاث، هو أعطاك واحدة، فلم تمتلكي الثلاث، ولم تستخدمي الواحدة التي أعطاك إياه






Bookmark and Share


أضف تعليق