عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

   

قد جاء في (أسد الغابة) لابن الأثير، وفي (تجريد أسماء الصحابة) للحافظ الذهبي، اسم صحابي يدعى جابان أبو ميمون، سمع من النبي محمد عليه السلام حديثًا يفيد أن أيّ رجل تزوّج امرأة وهو ينوي ألا يعطيها الصداق لقي الله عز وجل وهو زان. أما في (الإصابة في تمييز الصحابة) لابن حَجَر العَسْقلاني فجاء الخبر عنه كما يأتي:


" جابان والد ميمون: روى ابن مَنْـده، من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم، عن أبي خالد: سمعت ميمون بن جابان الصردي، عن أبيه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، حتى بلغ عشرًا، يقول: من تزوّج امرأة وهو ينوي ألا يعطيها الصداق، لقي الله وهو زانٍ ".


ولم يذكر ياقوت الحموي في (معجم البلدان) مكانًا أو بلداً أو مدينة باسم (صرد)، ولم ترد النسبة إلى هذا الاسم في كتاب (الأنساب) للسَّمْعاني (ت 562 هـ)، ولا في كتاب (اللُّباب في تهذيب الأنساب) لابن الأثير عز الدين (ت 630 هـ)، لكن ورد في كتاب (معجم البلدان) اسم (سَرْدَرُوذ)، وهي من قرى همذان، وقد يكون النسبة (صردي) محوّرة من (سردي) نسبة إلى (سردروذ)، ومثل هذا كثير في العربية. وإذا صحّ ذلك فالأرجح أن جابان الصردي هو والد ميمون الكردي، لأن همذان تقع في إقليم الجبال، وهي من بلاد الكرد، بل هي نفسها (أَكْبَتانا) العاصمة القديمة للميديين (أجداد الكرد) قبل سنة (550 ق.م).

 


وجاء في كتاب (خلاصة تاريخ الكرد وكردستان) للمؤرخ محمد أمين زكي، نقلاً عن العلامة الآلوسي في تفسيره الشهير (روح المعاني) أن جابان كردي، وروى حديثاً نبوياً أو أكثر يدور حول النكاح.

 نتائج وحقائق.


وتقودنا هذه الأخبار جميعها إلى الحقائق الآتية:


- أولها أن جابان كردي، باعتبار أن المصادر نصّت على كردية ابنه ميمون، ومن المحال أن يكون الابن كردياً ويكون الأب من قومية أخرى.

 


- وثانيها أن جابان كان من الصحابة، فقد لقي النبي محمداً عليه السلام، وسمع منه، وروى عنه، وكان الرجل شديد الورع، إلى درجة أنه كان غير متحمّس لرواية الأحاديث عن النبي محمد عليه السلام، مخافة الزيادة أو النقص، ومعروف أن بعض الصحابة كانوا يحجمون عن رواية الأحاديث عن النبي محمد عليه السلام خشية السقوط في خلل عند الرواية، وأن بعض سهام النقد وُجّهت، في عصر صدر الإسلام، إلى الصحابي أبي هريرة، لأنه كان يكثر من رواية الأحاديث.

 


- وثالثها أن سماع جابان من النبي محمد عليه السلام لم يكن مرات قليلة، بل كان متكررًا؛ أي أن لقاءه بالنبي لم يكن لقاء عابراً، وإنما كان يلتقيه مرارًا عديدة، وإلا فلماذا يطالب الناس ابنه ميمونًا بأن يروي لهم ما سمعه عن أبيه، عن النبي محمد عليه السلام؟!

 


- ورابعها أن العرب في أواخر العصر الجاهلي، ومع ظهور الإسلام، لم يكونوا يجهلون الكرد، إنهم كانوا يعرفون أن الكرد شعب قائم برأسه، وكانوا يعرفونهم بهذا الاسم تحديداً، ويميّزون بينهم وبين الفرس والروم والترك والأرمن، رغم تبعية الكرد للدولة الفارسية حينذاك، ولذلك لم يُقولوا: (ميمون الفارسي) مثلاً، كما قالوا عن الصحابي الشهير (سلمان الفارسي)، والصحابي (بلال الحبشي)، بل قالوا: ميمون الكردي.

 


 تساؤلات واحتمالات.


وبعد هذا يبقى ثمة تساؤلات مهمة:
- أولها: متى قدم جابان إلى منطقة الحجاز؟ هل وفد إليها بنفسه؟ أم أن أسرته كانت قد وفدت قبل الإسلام بفترة طويلة؟!

 


- وثانيها: أين كان جابان يقيم تحديداً؟ هل كان من سكان مكة، أم من سكان يثرب، أم من سكان الطائف؟! فهذه هي أشهر المدن في الحجاز حينذاك.


- وثالثها: ما الذي جعل جابان ينتقل من بلاد الكرد في الشمال الشرقي إلى الحجاز في أعماق بلاد العرب؟!

 


ها هنا لا تسعفنا المصادر بشيء.
وليس لنا إلا نحدس ونظن ونرجّح.


لكن ليس بعيداً عن منطق التاريخ، وليس خارج التحليل الموضوعي.
ولعل جابان كان من المقيمين في مكة، فهاجر إلى المدينة بعد إسلامه مع من هاجر من المستضعفين؛ إذ المعروف أن جاليات من الفرس والروم والصابئة والأحباش كانت تقيم في مكة، لأغراض تجارية أو تبشيرية أو سياسية، هذا إضافة إلى عدد كبير من الأرقّاء والموالي المختلفي الجنسيات، وقد يكون جابان أحد أفراد تلك الجاليات، أو أحد أولئك الأرقاء؛ على أن نأخذ بالاعتبار أن الكرد كانوا حينذاك معدودين في التبعية الفارسية سياسيًا وثقافيًا.
ولعل جابان كان مقيمًا أصلاً في مدينة يثرب (المدينة المنوّرة)، وهناك التقى الرسول محمدًا عليه السلام بعد الهجرة.
ولعله كان من الجاليات الأعجمية (غير العربية) المقيمة في الطائف، وسمع بظهور الدعوة الإسلامية، فالتحق بها في مكة أو في المدينة المنوّرة.
هذا عن المكان الذي كان يقيم فيه جابان.
ولكن كيف وصل جابان إلى الحجاز؟!

 


 احتمالات أخرى.


حقاً.. أمامنا ها هنا أيضاً عدد من الاحتمالات.
فقد يكون جابان ممن وقعوا في الأسر خلال الحروب الفارسية – البيزنطية الكثيرة، ثم بيع في أسواق النخاسة، وانتقل خلال ذلك من بلد إلى آخر، وانتهى به الأمر إلى مكة أو الطائف أو يثرب أو غيرها من المراكز التجارية، ولا ننس أن مكة ويثرب كانتا مركزين تجاريين هامين بين العراق والشام وبين اليمن (بوّابة العرب على إفريقيا وجنوب آسيا).

 


وقد يكون جابان من العاملين في التجارة حينذاك، وكان يتولّى بعض الشؤون التجارية في مكة أو المدينة أو الطائف، أو غيرها، شأنه في ذلك شأن كثير من الفرس والروم والأحباش وغيرهم، وسمع بالدعوة الإسلامية، فانضم إلى صفوفها.

 


وقد يكون جابان من الكرد الناقمين على الحكم الساساني الفارسي، ومن الثائرين في وجهها، واللاجئين إلى أعماق شبه الجزيرة العربية، هرباً بنفسه من البطش الساساني . وقد يكون من المثقفين والمتنوّرين الذين كانت الدولة الساسانية توفدهم إلى المراكز الحضرية العربية، بغرض التبشير للثقافة الفارسية وللدين الزردشتي؛ العقيدة التي كانت تتخذها الدولة الساسانية ديناًرسمياً.



ومهما يكن فإن جابان لم يكن حديث عهد بالإقامة في الحجاز، وإلا فكيف أجاد اللغة العربية، إلى درجة أنه كان يفهم بدقة ما يسمعه من الرسول محمد عليه السلام، وكان قادرًا على توصيله إلى الآخرين بدقة وبلسان عربي فصيح. وإن الجزء الأعظم من صحبة جابان للنبي محمد عليه السلام كان بعد الهجرة، فالأحاديث التي رواها تتعلق بقضايا التشريع التي تنظّم شؤون المجتمع، والمشهور أن النبي كان منشغلاً في مكة (قبل الهجرة) بأمور الدعوة، ومقارعة المناوئين له على الصعيد الإيديولوجي (العَقَدي)، وانصرف بعد الهجرة إلى تبيان القضايا التشريعية التنظيمية وترسيخها.
هذا ما استطعنا أن نعرفه حول الصحابي الكردي جابان رضي الله عنه.
وحبذا أن يوافينا القراء الكرام بمعلومات إضافية يعرفونها في هذا المجال.

 


المراجــع


1. الآلوسي (شهاب الدين محمود): روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1980م.
2. ابن الأثير (عز الدين علي):
- أسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق وتعليق محمد إبراهيم البنا، محمد أحمد عاشور، محمود عبد الوهاب فايد، دار الشعب، القاهرة، 1970م.
- اللباب في تهذيب الأنساب، مكتبة المثنى، بغداد، 1970م.
3. الحافظ الذهبي (شمس الدين محمد):
- تجريد أسماء الصحابة، دار المعرفة، بيروت، 1960م.
- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، 1963م.
4. ابن حجر العسقلاني (أحمد بن علي):
- الإصابة في تمييز الصحابة، حقق أصوله وضبط أعلامه ووضع فهارسه علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، 1970 – 1972 م.
- تهذيب التهذيب، حققه وعلق عليه مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1994م.
5. السَّمْعاني (عبد الكريم بن محمد): الأنساب، تقديم وتعليق عبد الله بن عمر البارودي، دار الجنان، بيروت، 1988م.
6. المزّي (جمال الدين يوسف): تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تحقيق وضبط وتعليق الدكتور بشار عوّاد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1992م.
7. ياقوت الحموي: معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990م.




                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق