خلق التواضع من الأخلاق الفاضلة الكريمة ، والشيم العظيمة التي حث عليها الإسلام ورغَّب فيها، وتمثله رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجاً عملياً في حياته، وفي ثنايا الأسطر التالية نقف عند بعض ملامح هذا المنهج العملي لنرى تواضعه صلى الله عليه وسلم.
فقد كان صلى الله عليه وسلم مع علو قدره ، ورفعة منصبه أشد الناس تواضعاً، وألينهم جانباً، وحسبك دليلاً على هذا أن الله سبحانه وتعالي خيَّره بين أن يكون نبياً ملكاً ، أو نبياً عبداً ، فأختار أن يكون نبياً عبداً صلوات الله وسلامه عليه
وفي "سنن" ابن ماجه عن قيس بن أبي حازم : أن رجلاً أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام بين يديه فأخذته رعدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هوّن عليك فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) ـ والقديد هو اللحم المجفف - وهذا من تمام تواضعه صلى الله عليه وسلم حيث بين له أنه ليس بملك، وذكر له ما كانت تأكله أمه لبيان أنه رجل منهم ، وليس بمتجبر يُخاف منه.
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم
من أقواله صلى الله عليه وسلم في الثناء على التواضع وذم الاستكبار
ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر رواه البخاري
ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله رواه مسلم وظاهر الحديث يعني الرفعة في الدنيا والآخرة
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله - رواه البخاري
وقال صلى الله عليه وسلم لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت - رواه البخاري وعن ابن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي له حاجته - رواه النسائي والحاكم وقال على شرطهما وأقره الذهبي، ورواه الترمذي في العلل عنه، وذكر أنه سأل عنه البخاري فقال هو حديث تفرد به الحسين بن واقد
وعن انس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم - رواه البخاري واللفظ له ومسلم وعن سهل بن حنيف قال كان صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم - رواه أبو يعلى والطبراني والحاكم يسند ضعيف وذكر المحب الطبري أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر وأمر أصحابه بإصلاح شاة، فقال رجل يا رسول الله، علي ذبحها
وقال آخر يا رسول الله، علي سلخها
وقال آخر يا رسول الله، علي طبخها
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي جمع الحطب
فقالوا يا رسول الله، نكفيك العمل
فقال صلى الله عليه وسلم قد علمت أنكم تكفونني، ولكن أكره أن أتميز عليكم
وعن أبي أمامة الباهلي قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئًا على عصا، فقمنا إليه، فقال لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضًا - رواه أبو داود أبن ماجة وإسناده حسن
من مظاهر تواضعه صلى الله عليه و سلم
أولاً : كان صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله
وفي الجانب المقابل، يظهر تواضعه صلى الله عليه وسلم في علاقاته الأسرية مع أهله، وكذلك في علاقاته الاجتماعية مع الناس من حوله؛ أما عن تواضعه مع أسرته، فخير من يحدثنا عن هذا الجانب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تقول وقد سألها سائل: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت: ( يكون في خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة ) وفي رواية عند الترمذي قالت: ( كان بشرًا من البشر، ينظف ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه ). فهو صلى الله عليه وسلم يقوم بتنظيف حاجاته بنفسه، ويشارك أهله في أعمال بيته، ويجلب حاجاته من السوق بنفسه مع أنه صلى الله عليه وسلم خير الخلق أجمعين .
ثانياً : كان صلى الله عليه وسلم يركب الحمار
عن انس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يعود المريض ويشهد الجنازة ويأتي دعوة المملوك ويركب الحمار، ولقد رأيته يومًا على حمار خطامه ليف - رواه أبو داود والطيالسي ونحوه عند الترمذي وابن ماجة
وعن حمزة بن عبد الله بن عتبة قال كان صلى الله عليه وسلم يركب الحمار عريانًا ليس عليه شيء - رواه ابن سعد مرسلاً بسند ضعيف
ثالثاً : كان صلى الله عليه وسلم يجيب الدعوة ولو إلى خبز الشعير
عن انس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب - رواه الترمذي في الشمائل
الإهالة السنخة أي الدهن الجامد المتغير الريح من طوال المكث
رابعاً : كان صلى الله عليه وسلم لا يدفع عنه الناس
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان صلى الله عليه وسلم لا يدفع عنه الناس ولا يضربوا عنه - رواه الطبراني في الكبير وحسنه السيوطي وذلك لشدة تواضعه صلى الله عليه وسلم وبرأته من الكبر والتعاظم
وعن الحسن قال والله ما كانت تغلق دونه الأبواب، ولا تقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح عليه بها، ولكنه كان باروزًا، من أراد أن يلقى نبي الله لقيه
وبالجملة فإن الناظر إلى ما تقدم بعين البصيرة والاعتبار يعلم علم اليقين، أن خلق التواضع كان خلقاً ملازماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه من الأخلاق التي ينبغي على المسلم أن يتحلى بها و يحرص عليها إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم كي ينال خيريِّ الدنيا والآخرة.
وقد وصف الله سبحانه رسوله الكريم بأعلى الأوصاف، وأكمل الصفات، وذكر ذلك في القرآن، فقال: { وإنك لعلى خلق عظيم } (القلم:4) وكفى بشهادة القرآن شهادة .
وكان خلق التواضع من الأخلاق التي اتصف بها صلى الله عليه وسلم، فكان خافض الجناح للكبير والصغير، والقريب والبعيد، والأهل والأصحاب، والرجل والمرأة، والصبي والصغير، والعبد والجارية، والمسلم وغير المسلم، فالكل في نظره سواء، لا فضل لأحد على آخر إلا بالعمل الصالح .
وأبلغ ما تتجلى صور تواضعه صلى الله عليه وسلم عند حديثه عن تحديد رسالته وتعيين غايته في هذه الحياة؛ فرسالته ليست رسالة دنيوية، تطلب ملكًا، أو تبتغي حُكمًا، أو تلهث وراء منصب، بل رسالة نبوية أخروية، منطلقها الأول والأخير رضا الله سبحانه، وغايتها إبلاغ الناس رسالة الإسلام. فقد كان صلى الله عليه وسلم كثير القول: ( إنما أنا عبد الله ورسوله )، فهو قبل كل شيء وبعد كل شيء عبد لله، مقر له بهذه العبودية، خاضع له في كل ما يأمر به وينهى عنه؛ ثم هو بعد ذلك رسول الله إلى الناس أجمعين .
ولأجل هذا المعنى، كان صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه عن مدحه ورفعه إلى مكانة غير المكانة التي وضعه الله فيها؛ وعندما سمع بعض أصحابه يناديه قائلاً: يا محمد ! يا سيدنا ! وابن سيدنا ! وخيرنا ! وابن خيرنا ! نهاه عن هذا القول، وعلمه ماذا يقول، وقال: ( أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل ) رواه أحمد و النسائي .
والذي يوضح هذا الجانب من تواضعه، ما أخبر به صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، بقوله: ( يا عائشة ! لو شئت لسارت معي جبال الذهب، جاءني مَلَك، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن شئت نبيًا عبدًا، وإن شئت نبيًا ملكًا، قال: فنظرت إلى جبريل، قال: فأشار إلي، أن ضع نفسك، قال: فقلت: نبيًا عبدًا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئًا، يقول: آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد ) رواه الطبراني وغيره. فهو صلى الله عليه وسلم لم يرض لنفسه أن يتصف بغير الوصف الذي وصفه الله به، وهو وصف العبودية، وأنه رسول مبلغ عن الله، وليس له غاية غير ذلك مما يتطلع إليه الناس، ويتسابقون إليه .
وكما وضَّح صلى الله عليه وسلم غايته في هذه الحياة ورسالته، فهو أيضًا قد وضح مكانته بين الأنبياء ومنزلته بين الرسل، فكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه لم يقبل من أحد أن يفضله على أحد من الأنبياء، مع أن القران قد أثبت التفضيل بين الأنبياء والرسل في قوله تعالى: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } (البقرة:253) وما ذلك إلا لتواضعه صلى الله عليه وسلم .
وقد ثبت أن رجلاً من المسلمين ورجلاً من اليهود سب كل واحد منهما الآخر، فقال المسلم لليهودي: والذي اصطفى محمدًا على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك وضرب اليهودي على وجهه، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما حدث، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم، فسأله عن ذلك، فأخبره بالذي جرى، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من صحابته ألا يفضلوه على أحد من الأنبياء، وأخبرهم عن منـزلة موسى عليه السلام، وأنه يوم القيامة يكون مع النبي ومن أول الذين تنشق عنهم الأرض يوم القيامة. والحديث في الصحيحين .
ومن مظاهر تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنه لم يكن يرضى من أحد أن يقوم له تعظيمًا لشخصه، بل كان ينهى أصحابه عن فعل ذلك؛ حتى إن الصحابة رضوان الله عنهم، مع شدة حبهم له، لم يكونوا يقومون له إذا رأوه قادمًا، وما ذلك إلا لعلمهم أنه كان يكره ذلك .
ولم يكن تواضعه عليه الصلاة والسلام صفة له مع صحابته فحسب، بل كان ذلك خُلُقًا أصيلاً، تجلى مع الناس جميعًا. يبين هذا أنه لما جاءه عدي بن حاتم يريد معرفة حقيقة دعوته، دعاه صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فألقت إليه الجارية وسادة يجلس عليها، فجعل الوسادة بينه وبين عدي ، وجلس على الأرض. قال عدي : فعرفت أنه ليس بملك .
وكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يجلس مع أصحابه كواحد منهم، ولم يكن يجلس مجلسًا يميزه عمن حوله، حتى إن الغريب الذي لا يعرفه، إذا دخل مجلسًا هو فيه، لم يستطع أن يفرق بينه وبين أصحابه، فكان يسأل: أيكم محمد ؟ .
ويدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنه لم يكن يرد أي هدية تقدم إليه، مهما قلَّ شأنها، ومهما كانت قيمتها، ولم يكن يتكبر على أي طعام يدعى إليه مهما كان بسيطًا، بل يقبل هذا وذاك بكل تواضع، ورحابة صدر، وطلاقة وجه .
ومن أبرز مظاهر تواضعه صلى الله عليه وسلم ما نجده في تعامله مع الضعاف من الناس وأصحاب الحاجات؛ كالنساء، والصبيان. فلم يكن يرى عيبًا في نفسه أن يمشي مع العبد، والأرملة، والمسكين، يواسيهم ويساعدهم في قضاء حوائجهم. بل فوق هذا، كان عليه الصلاة والسلام إذا مر على الصبيان والصغار سلم عليهم، وداعبهم بكلمة طيبة، أو لاطفهم بلمسة حانية .
ومن صور تواضعه في علاقاته الاجتماعية، أنه صلى الله عليه وسلم، كان إذا سار مع جماعة من أصحابه، سار خلفهم، حتى لا يتأخر عنه أحد، ولكي يكون الجميع تحت نظره ورعايته، فيحمل الضعيف على دابته، ويساعد صاحب الحاجة في قضاء حاجته .
تلك صور من تواضعه عليه الصلاة والسلام، وأين هي مما يصوره به اليوم أعداؤه، والمبغضون لهديه، والحاقدون على شريعته؛ ثم أين نحن المسلمين من التخلق بخلق التواضع، الذي جسده نبينا صلى الله عليه وسلم في حياته خير تجسيد، وقام به خير قيام ؟!