لقد بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أمِّيًّا لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لقوله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48].
وكونه عليه الصلاة والسلام أمِّيًّا يعد معجزة من معجزاته الدالة على صدقه، وأن ما جاء به من عند الله تعالى لا من عند نفسه، قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].
وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
ولو كان عليه الصلاة والسلام قارئاً كاتبًا لادَّعى المشركون أن ما جاء به من اختراعه ومن بنيات أفكاره.
وقد اختلف أهل العلم - رحمهم الله - هل تعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم القراءة والكتابة بعد نزول الوحي أو لا ؟ فمنهم من قال: إنه تعلَّم ذلك، فذكر القرطبي في تفسيره نقلاً عن النقاش في تفسيره عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلى عليه وسلم حتى كتب. ، وأسند أيضا حديث أبي كبشة السلولي مضمنه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ صحيفة لـ عيينه بن حصن وأخبر بمعناها، وضعَّف ذلك ابن عطية.
واستدلوا أيضا بما رواه مسلم من حديث البراء في صلح الحديبية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عليٍّ : اكْتُبِ الشّرْطَ بَيْنَنَا. بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ. هَذَا مَا قَاضَىَ عَلَيْهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ" فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أَنّكَ رَسُولُ اللّهِ تَابَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ. فَأَمَرَ عَلِيّاً أَنْ يَمْحَاهَا. فَقَالَ عَلِيّ: لاَ، وَاللّهِ! لاَ أَمْحَاهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرِنِي مَكَانَهَا" فَأَرَاهُ مَكَانَهَا، فَمَحَاهَا.
وَكَتَبَ "ابْنُ عَبْدِ اللّهِ.
قالوا: وقد رواه البخاري بأظهر من هذا فقال: فاخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب. ، وزاد في طريق أخرى: ولا يحسن أن يكتب. فقال جماعة من العلماء: بجواز ذلك عليه وأنه كتب بيده. منهم السمناني والباجي ورأوا أن ذلك غير قادح في كونه أمِّيًّا ولا معارضاً لقوله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]، ولا بقوله ": إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. بل رأوه زيادة في معجزاته واستظهارا على صدقه وصحة رسالته، وذلك أنه كتب من غير تعلم لكتابة ولا تعاطٍ لأسبابها، وإنما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها ابن عبد الله لمن قرأها، فكان ذلك خارقاً للعادة، كما أنه عليه السلام عَلِمَ عِلْمَ الأولين والآخرين من غير اكتساب ولا تعلُّم، فكان ذلك أبلغ في معجزاته وأعظم في فضائله ولا يزول عنه اسم الأمي بذلك، ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة: ولا يحسن أن يكتب. فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال: كتب.
وقال بعض أهل العلم: إنه صلى الله عليه وسلم ما كتب ولا حرفاً واحداً، وإنما أمر من يكتب، وكذلك ما قرأ ولا تهجَّى.
قالوا: وكتابته مناقضه لكونه أمِّيًّا لا يكتب، ونكونه أمِّيًّا في أمة أمية قامت الحجة وأفحم الجاحدون وانحسمت الشبهة، فكيف يُطلِقُ الله تعالى يده فيكتب وتكون آية؟ وإنما الآية ألاَّ يكتب، والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضاً، وإنما معنى كتب وأخذ القلم: أي أمر من يكتب به من كتابه، وكان من كتبة الوحي بين يديه صلى الله عليه وسلم ستة وعشرون كاتباً.
ورجَّح هذا القول القرطبي في تفسيره. وعلى كلا القولين فوصفه بالأمِّيِّ لكونه من معجزاته عليه الصلاة والسلام، فإن لم يكن كتب فالأمِّيَّة وصف ملازم له عليه الصلاة والسلام حتى مات، وإن كان كتب فوصفه بالأمِّيِّ باعتبار ما كان ويبقى متصفاً بهذا الوصف لكونه من معجزاته الباهرة، ولكونه بُعثَ في أمةٍ أميةٍ لا تقرأُ ولا تكتبُ، فناسب أن يكون أمِّيًّا مثلهم لتقطع الشبهة.
فلا شك أن النبي الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم قد ولد أمياً، وظل على ذلك إلى أن بعث وهو أمي، وهذا كمال في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من معجزاته الشريفة، قال الله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[الجمعة:2].
وفي وصف الرسول الأمي بأنه يتلو على الأميين آيات الله أي وحيه، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب أي يلقنهم إياه، كما كانت الرسل تلقن الأمم الكتاب بالكتابة، ويعلمهم الحكمة التي علمتها الرسل السابقون أممهم، في كل هذه الأوصاف تحد بمعجزة الأمية في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مع كونه أمياً قد أتى أمته بجميع الفوائد التي أتى بها الرسل غير الأميين أممهم لا ينقص عنهم شيئاً، فتمحضت الأمية للكون معجزة حصل من صاحبها أفضل مما حصل من الرسل الكاتبين مثل موسى. وفي وصف الأمي بالتلاوة، وتعليم الكتاب والحكمة، وتزكية النفوس، ضرب من محسن الطباق، لأن المتعارف عليه أن هذه مضادة للأمية. أفاده العلامة بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير(13/209).
ولا شك أن إبقاء الله لنبيه على الأمية كان لحكمة عظيمة، قال الفخر الرازي عند قوله تعالى: (رسولاً منهم) يعني محمداً صلى الله عليه وسلم نسبه من نسبهم، وهو من جنسهم، كما قال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) [التوبة:128] قال أهل المعاني: وكان هو صلى الله عليه وسلم أيضاً أمياً مثل الأمة التي بعث فيهم، وكانت البشارة به في الكتب قد تقدمت بأنه النبي الأمي، وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة، فكانت حاله مشاكلة لحال الذين بعث فيهم، وذلك أقرب إلى صدقه. التفسير الكبير(10538) للرازي.
ومن الآيات التي تشير إلى الحكمة من كونه أمياً قوله تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون)[العنكبوت:48] قال ابن عاشور: (هذا استدلال بصفة الأمية المعروف بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ودلالتها على أنه موحى إليه من الله أعظم دلالة، وقد ورد الاستدلال بها في مواضع كقوله: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان)[الشورى:52] وقوله: (فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون)[يونس:16]. ومعنى: (ما كنت تتلو من قبله من كتاب) إنك لم تكن تقرأ كتاباً حتى يقول أحد: هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبل.
(ولا تخطه) أي لا تكتب كتاباً، ولو كنت لا تتلوه، فالمقصود نفي حالتي التعلم، وهما: التعلم بالقراءة، والتعلم بالكتابة، استقصاء في تحقيق وصف الأمية...(بل هو آيات بينات في صدور الذي أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون)[العنكبوت:49] .. أي بل القرآن آيات ليست مما كان يتلى قبل نزوله، بل هو آيات في صدر النبي صلى الله عليه وسلم. فالمراد من (صدور الذين أوتوا العلم) صدر النبي صلى الله عليه وسلم عبر عنه بالجمع تعظيماً له، والعلم الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم هو النبوة ) التحرير والتنوير(10/12).
و يحسن بنا هنا أن نشير إلى جواب سؤال مهم وهو: هل ظل الرسول صلى الله عليه وسلم على أميته إلى أن توفي؟ أم تعلم القراءة والكتابة بعد أن بعث بفترة؟ وهل قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً؟ وهل كتب بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم؟
وللجوابعن هذا السؤال نقول : نقل الإمام النووي عن القاضي عياض الخلاف في ذلك، وعزى إليه أن الباجي وغيره ذهبوا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كتب، كما في قصة صلح الحديبية من رواية البخاري وفيه: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، فكتب" وزاد عنه في طريق آخر" ولا يحسن أن يكتب فكتب" قالوا: وهذا لا يقدح في أميته. بينما ذهب الأكثرون إلى منع ذلك كله. وقالوا: قوله "كتب" أي: أمر بالكتابة.. إلخ. انظر صحيح مسلم كتاب الجهاد، باب صلح الحديبية في الحديبية بشرح النووي(6/381)