يقولون الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والذي يميز الهدي النبوي في تصحيح الأخطاء أنه منهج قائم على العلم بحقيقة الإنسان، ومرتكز على التصور التام لتركيبته البشرية، ومن ثم فإن توجيهاته ستكون متوائمة مع الطبيعة الإنسانية، متفقة مع خصوصية كل فئة من فئات المجتمع.
ولما كان للمرأة طبيعةٌ تخصها، وتركيبةٌ تختلف عن الرجل في خصائصها، كان لا بد معهن من التعامل الخاص المنسجم مع الخصائص والخِلْقة التي فطرت عليها.
فقد كان يتعامل مع أخطاء نسائه على أساس التصور العميق عن فسيولوجية المرأة التي تنشأ عنها أخطاؤها، ومن ثم يُقيم عوجها بما يتناسب مع طبيعتها وخلقتها، ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضِلَع، وإن أعوج شيء في الضِّلَع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه وإن تركتَه لم يزِلْ أعوج، فاستوصوا بالنساء»، وكذا أخرجه مسلم من رواية سفيان عن أبي الزناد بلفظ: «إن المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة».
العوج: ضُبط بفتح العين المهملة وبكسرها، ورجح النووي الكسر؛ لما يقتضيه كلام أهل اللغة، لأن العَوج بالفتح يوصف به الشواخص، وبالكسر يوصف به ما لم يُرَ كالكلام والطباع، فلا يقال قال صاحبُ المطالع: قال أهلُ اللُّغة: العَوج بالفتح في كلِّ شخص، وبالكسر فيما ليس مرئيٍّ، كالرأي والكلام.
وهذا الحديث العجيب يتخطى كل القدرات البشرية على توصيف المرأة توصيفا بمنتهى الدقة، فهو يدل على أن المتاح مع المرأة هو التخفيف من أخطائها، لا إقامة عوجها بالكلية، فهذا غير ممكن.
وإذا كانت هذه طبيعة المرأة فإنه ليس من التربية الناجحة تقويمها بالشدة والقسوة بل يترفق بها ما أمكن، مع الصبر على أخطائهن، ولذلك بوَّب البخاري على الحديث "باب المداراة مع النِّساء".
قال ابن حجر: قوله: «بالنساء خيراً» كأن فيه رمزا إلى التقويم برفق بحيث لا يبالغ فيه فيكسر ولا يتركه فيستمر على عوجه.
ويقول الإمام الشوكانيُّ: والفائدةُ في تشبيه المرأة بالضِّلع: التنبيهُ على أنَّها معوَّجة الأخلاق، لا تستقيم أبدًا، فمَن حاول حملَها على الأخلاق المستقيمة أفسَدَها، ومَن تركَها على ما هي عليه مِن الاعوجاج انتفع بها. أ.هـ
وحتى يفهم الحديث على وجهه، فليس المقصود به ترك المرأة تتجاوز وتعصي، بل المراد ما دامت في دائرة المباح.
قال ابن حجر: وإلى هذا أشار البخاري باتباعه بالترجمة التي بعده باب: « قُوا أنفسَكم وأهليكم ناراً»، فيؤخذ منه أن لا يتركها على الاعوجاج إذا تعدت ما طبعت عليه من النقص إلى تعاطي المعصية بمباشرتها أو ترك الواجب ، وإنما المراد أن يتركها على اعوجاجها في الأمور المباحة.
وفي الحديث الندب إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب، وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن، وأن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه، فكأنه قال: الاستمتاع بها لا يتم إلا بالصبر عليها. أ.هـ
ومن أمثلة ذلك: ما رواه البخاري عن أنس قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصَحْفة فيها طعام، فضربت التي النبي- صلى الله عليه وسلم- في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: «غارت أمُّكم» ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرت صحفتُها وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرَتْ.
فسامحها عن حقه الاعتباري كزوج يحصل هذا الموقف أمامه وأمام أضيافه، وقابل ذلك بالعفو والحلم؛ لإدراكه أن تصرفها ناتج عن غيرتها الشديدة، وليس أخف من عقل المرأة حال اشتداد غيرتها.
أما إن كان الخطأ يرقى إلى درجة المخالفة الشرعية فإنه يبادر إلى التصحيح وربما غضب عليها وزجرها، فقد روى أبو داود عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله، إن صفية امرأةٌ وقالت بيدها هكذا، -كأنها تعني قصيرة-، فقال: «لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَت بماء البحر لمزجَتْه».
وقد يكون الهجر في أدب النبوة أسلوباً للعلاج وتصحيح الخطأ عند المرأة، فقد هجر الرسول زوجاتِه وآلى على نفسه ألا يدخل عليهن شهرا كاملا، وأما سبب ذلك الهجر فقد اختلفت فيه الروايات، فذكر بعضهم أنه بسبب إفشاء حفصة إلى عائشة سراً كان النبي -صلى الله عليه وسلم- اسْتَكْتَمَها إياه، ففي صحيح البخاري: فاعتزل النبي -صلى الله عليه وسلم- نساءه من أجل ذلك الحديث الذي أفشته حفصة إلى عائشة، والحديث الذي أفشته حفصة إلى عائشة فسَّره بعضُهم بما ورد في قصة العسل وهي في الصحيحين، وفسره آخرون بإتيانه جاريتهمارية القبطية في بيت حفصة، وقد رواها البيهقي، والدار قطني، والطبراني في الأوسط والكبير.
وذكر آخرون أن سبب غضبه عليهن ثم اعتزالِهن ما ورد من مطالبتهن إياه بالنفقة، وقد جاءت بذلك رواية جابر في صحيح مسلم، وقد ذكر غير ذلك من أسباب.
قال الحافظ في الفتح: ويحتمل أن يكون مجموع هذه الأشياء كان سببا لاعتزالهن، وهذا هو اللائق بمكارم أخلاقه
-صلى الله عليه وسلم-، وسعة صدره، وكثرة صفحه، وأن ذلك لم يقع منه حتى تكرر موجبه منهن -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهن.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعالج بعض أخطاء نسائه بالموعظة أيضاً، امتثالاً لقوله تعالى: «واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن»، وهو أسلوب ناجح في استصلاح المرأة، فهي بالطبع رقيقة القلب تنفذ الموعظة إليها أسرع من الرجل.
مثاله: ما في البخاري « أن اليهود أتَوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ، فقالوا : السَّام عليك، فقال: «وعليكم»، فقالت عائشة: السَّامُ عليكم، ولعنكم اللَّه، وغضب عليكم، فقال رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- : «يا عائشةُ عليك بالرفق، وإيَّاكِ والعُنْفَ والفُحشَ، قالت: أوَ لَمْ تسمع ما قالوا ؟ قال :أوَ لَم تسمعي ما قلْتُ ؟ رَدَدْتُ عليهم، فَيُستجابُ لي فيهم، ولا يستجاب لهم فيَّ».
وقد يصحب أسلوبَ الموعظة نوعٌ من الزجر الجسدي؛ ليكون أبلغ في وقع الكلام وتأثيره، كما في مسلم والنسائي وغيرهما عن عائشة في قصة خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة من بيتها، قالت: فتَتَبَّعْتُه إلى البقيع ثم سبقته في طريق عودته إلى البيت، فلما أخبرته بما فعلت قال لها: «أظننتِ أن يَحِيفَ الله عليكِ ورسولُه»؟ قالت: مهما يَكتُم الناس يُعلِمْه اللهُ.
وقد كان خطؤها أنها خرجت من بيته بغير إذنه، والأهم من ذلك أنها ظنت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يذهب لغيرها من نسائه في نوبتها، وهذا سوء ظن أوجبته غيرتُها، فحذرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووعظها وزجرها بأن دفعها من صدرها؛ لتعلَم عظيمَ ما ظنت به.
ولا يرقى هذا إلى أن يسمى ضرباً، فلم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم ضرب نسائه، فقد قالت عائشة -رضي الله عنها- في صحيح مسلم: «ما ضرب رسول الله شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله».
قال السندي في شرح سنن النسائي: «فَلَهَدَنِي» بالدال المهملة من الَّلهْد، وهو الدفع الشديد في الصدر، وهذا كان تأديبا لها من سوء الظن، «أن يحِيفَ اللهُ عليك ورسولُه» من الحيف بمعنى الجور، أي: بأن يَدخلَ الرسولُ في نَوْبَتِكِ على غيرِكِ.