تحدث كثير من العلماء عن استدراكات الصحابة بعضهم على بعض، وخصوا من ذلك ما استدركته أم المؤمنين عائشة على عدد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ولعل من أشهر المصنفات كتاب "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" للإمام الزركشي، حيث ذكر فيه طائفة من الأحاديث التي استدركتها أم المؤمنين عائشة على عدد من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ويعد هذا الكتاب من أجمع ما صنف في هذا الباب، ذكر فيه مؤلفه ما تفرق في غيره من كتب الحديث مما استدركته على عدد من أعلام الصحابة، أوما خالفتهم فيه، أو تفردت أو أنكرت عليهم فيه، بناء على زيادة علم عندها، أو اجتهاد منها رضي الله تعالى عنها وعنهم أجمعين.
ولا شك أن الإحاطة بهذه الأحاديث في مقال واحد يعد من الصعوبة بمكان، حيث قسمالزركشي الباب الثاني فيه على عدة فصول، منها: مكانتها ورجوع الصديق إلى رأيها، واستدراكها على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعلى أبي هريرة، وعلى العديد من مشاهير الصحابة.
أهمية هذه الاستدراكات
نحاول الوقوف على أهم المحطات وأبرز الأحاديث، لتكون بمثابة نماذج على مثل هذه الاستدراكات، وقبل ذلك نبين أهمية وجود مثل هذه الاستدراكات في ذلك الزمن المتقدم القريب من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لتكون الرد الأقوى على أقوال الكثيرين من المشككين في حجية السنة النبوية، والأصول التي وضعها العلماء للدلالة على صحة الأحاديث الشريفة ودقة نقلها، والرد على كل الشبهات والطعون التي يثيرها المستشرقون وأتباعهم في محاولة إظهار أن علماء الحديث لم يكونوا يهتمون بنقد الحديث إلا بالإسناد، وهو ما سموه "النقد الخارجي"، أما اهتمامهم في نقد المتن وهو "النقد الداخلي" فكانوا بعيدين عنه كل البعد، وهذا يعني أنهم يريدون من ذلك القول بأن علماء الحديث كانوا لا يهتمون بمعنى الحديث ومعقوليته أو صحته من حيث المتن، فجاءت مثل هذه الاستدراكات لتثبت عكس هذا بكل وضوح، وتقول لهم جميعاً: إن علماء المسلمين كانوا وما زالوا منذ عهد الصحابة حتى يومنا هذا يهتمون بالحديث الشريف بشقيه؛ المتن والإسناد، وكانوا يقسمون علم الحديث إلى علم الدراية، وعلم الرواية، ويعطون كل قسم منها حقه من الرعاية والاهتمام، بدأ هذا منذ عهد الصحابة، الذي لم يكن فيه الإسناد يمثل إشكالاً، من هنا تظهر أهمية هذه الاستدراكات لأنها كانت تركز كثيرا على متنها ومضمونها أكثر من تركيزها على الإسناد.
حجم هذه الاستدراكات ونماذج منها
مما ينبغي بيانه هنا أنه ليس شرطاً أن يكون الحق والصواب دائماً في مثل هذه الأحاديث مع أم المؤمنين رضي الله عنها، فقد تتبع عدد من علماء الحديث عبر التاريخ هذه الاستدركات، التي أوصلها بعضهم إلى ما يزيد عن خمسين حديثاً، وذكروا وجه الصواب فيها، إن كان معها، أم مع غيرها من الصحابة الكرام، مما لا يتسع المجال لبسطه وبيانه في هذا المقال، منها أن أباها الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسألها ويرجع إليها، أما استدراكها على عمر فقد ذكر الزركشي أنها اعترضت عليه في ثمانية أحاديث، أكتفي بذكر حديث واحد منها، رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن عمر أنه كان ينهى عن البكاء على الميت، ويقول: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) فكانت أم المؤمنين عائشة تقول: رحم الله عمر، لا والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد، ولكن قال: إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، وقالت عائشة: حسبكم القرآن: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164).
ثم تتبع الزركشي استدراكاتها على معظم الصحابة الكرام، منها ردها واعتراضها على سبعة أحاديث لابن عباس، وتسعة أحاديث لابن عمر، وأحد عشر حديثاً لأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة الكرام الذين رووا عدداً من الأحاديث ونسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يصعب حصره وبيانه، والمهم في هذه الاعتراضات أن نقف على منهجها في ذلك والأدلة التي كانت تعتمد عليها في ذلك، ونأخذ مثالاً مهماً واضحاً لبيان سبب ذلك، فيما جاء في اعتراضها على حديث رواه أبو هريرة، يقوله فيه: "من أدركه الفجر جنباً فلا يصم"، فقالت هي وأم سلمة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من غير طهر، ثم يصوم)، فعندما سألوا أبا هريرة قال: أهما قالتاه لك؟ قال: نعم. قال: هما أعلم. ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن عباس، حيث قال: سمعت ذلك من الفضل ولم أسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول من ذلك.
وكذلك ردها واعتراضها على حديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل)، حيث استدركت عائشة رضي الله عنها ذلك، وقالت: شبهتموها بالحمير والكلاب، والله لقد رأيت رسول الله يصلي وأنا على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنسل من عند رجليه، ذكره البخاري في باب من قال: لا يقطع الصلاة شيء.
وكذلك استدراكها لحديث البول قائماً، الذي أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشةقالت: من حدثكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً، هذا لفظ الترمذي وقال: هو أحسن شيء في هذا الباب وأصح انتهى، وإسناده على شرط مسلم، قال الزركشي: "...واعلم أنه قد حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبول قائماً حذيفة أخرجاه في الصحيحين، وجمع بعضهم بين الروايتين، لأن النفي في حديثعائشة ورد على صيغة كان بمعنى الاستمرار في الأغلب، وحديث حذيفة ليس فيه كان، فلا يدل إلا على مطلق الفعل ولو مرة، وحكى الخطابي عن الشافعي أنه قال: كانت العرب تستشفي لوجع الصلب بالبول قائماً، فلعله كان به إذ ذاك وجع الصلب، أما رواية ابن ماجه: (من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً فلا تصدقه) ففيها مخالفة، والمعنى الإخبار عن الحالة المستمرة، ولم تطلع على ما اطلع عليه حذيفة، ولهذا علقت مستند إنكارها برؤيتها".
وكذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الشؤم في ثلاث: الدار والمرأة والفرس)، فقالت عائشة: لم يحفظ أبو هريرة؛ إنما دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قاتل الله اليهود يقولون: إن الشوم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس)، فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله.
هذه بعض النماذج لما ورد من استدراكات أم المؤمنين على الصحابة وكيفية توجيهها. ولا شك أن الكلام في هذا يطول ويحتاج أكثر من هذا، ونستنتج من كل هذا: أن عملية نقد متن الحديث كانت قد بدأت في عهد الصحابة، وأن الصحابة كانوا شديدي الحرص على التثبت في دقة نقل الأحاديث، لتجنب أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، ويصبح سنة، واستمر هذا بعد الصحابة جيلاً بعد جيل.
أهم الحكم والفوائد في تتبع هذه الاستدراكات
الاستدراك في حق الصحابة الكرام لا يعني التكذيب بأي حال من الأحوال، وأن هذا العمل كان معهوداً عند المحدثين في كافة العصور، ومما لا شك فيه أن أم المؤمنين تعد من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي من أعرف الناس به، وكانت كثيراً ما تستفسر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسأله عن أي أمر لم تفهمه، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةُ أَنَهُمْ إِلىَ رَبِهمْ رَاجِعُونَ} (المؤمنون: 60)، قالتعائشة: "أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟" قال رسول الله : (لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يتقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات).
ومما لا شك فيه أن أم المؤمنين عائشة تعد من أعلم الصحابة بالحديث، وأكثرهم رواية، حيث بلغ عدد الأحاديث التي روتها حوالي (2210) حديثاً، وكانت رضي الله عنها تجتهد في المسائل التي لا تجد لها نصاً صريحاً، حتى قال عنها عبد الرحمن بن أبي سلمة: "ما رأيت أحداً أعلم بسنن رسول الله، ولا أفقه في رأي إن احتيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نزلت، ولا فريضة، من عائشة".
إن مكانة أم المؤمنين عائشة كانت محفوظة لدى الصحابة الكرام، ثم التابعين، ثم من جاء بعدهم، يدل على ذلك ما رواه الترمذي أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي الله عنها أن اكتبي إليّ كتاباً توصيني فيه، ولا تكثري عليّ، فكتبت عائشة إلى معاوية: "سلام عليك أما بعد، فإنني سمعت رسول الله يقول: (من التمس رضى الله بسخط الناس، كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، وكّله الله إلى الناس) والسلام عليك".
ومما لا شك فيه كذلك أن مثل هذه الاعتراضات لا تتعارض عند علماء الحديث مع عدالة الصحابة الكرام فالعدالة لا تعني العصمة، والخطأ من طبيعة البشر، وما جاء في بعض الروايات كما في البخاري عن عائشة قالت: "لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث، من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب"، وكانت بمثل هذا القول لا تعني الكذب المنافي للصدق، وإنما تقصد به أنه "أخطأ" وكذلك هو المقصود من قولها: "من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية، ولكن رأى جبريل في صورته وخلقه ساداً ما بين الأفق".
ومن المهم بيانه هنا أن أم المؤمنين عائشة كانت ترد الأحاديث رغم مكانة قائليها كأمير المؤمنين عمر وغيره، وكانوا رضوان الله عليهم جميعاً إن وجدوا في اعتراضها أو ردها عليهم حقاً، يقفون عنده، ويعترفون به، ولا يغضبون من مثل هذا الاعتراض، ومما هو معلوم أنه في حالة تعارض حديث الرسول وفتوى الصحابي يقدم حديث الرسول، كما جاء في صحيح مسلم أنه بلغ عائشة أن عبد الله بن عمر يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: "يا عجبا لابن عمر هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن! لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد، ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات"، فكانت تعرض فتواه على ما تعلم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتردها.
ولقد كان كثير من أسباب الاختلاف في هذه الروايات التي استدركتها عليهم هو الوهم، أو الخطأ، أو النسيان، كما صرحت هي في بعضها، أو صرح من جاء بعدها من أئمة الحديث بعد دراستها وتتبع طرقها، وقد كان عمل أم المؤمنين عائشة في استدراكاتها أنها بهذا قد سنت سنة حسنة في هذا الباب، ولم تجد حرجاً في ذلك، وكان في هذا تعتمد على عرض هذه الأحاديث على آيات القرآن الكريم، كما في حديث تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، أو عرضها على روايات أخرى تعلمها في هذا الباب أو كانت تعتمد على رفع الحرج أو على سبب ورود الحديث كما في حديث البكاء على الميت، حيث ذكرت أن سبب قول النبي لذلك الحديث هو مروره على يهودية كان أهلها يبكون عليها، ولا شك أن الأمر يحتاج إلى أزيد من هذا، وخير الكلام ما قل ودل، والله تعالى أعلم.