سؤال ورد عن قوله تعالى: (كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم..) وأن فيها خيطًا دقيقًا يبغي السائل التماسه..
والجواب: اعلم أن الناس أصناف:
1) منهم خامةٌ كريمةٌ وطاهرةٌ وقوية.. فتؤمن وتعلن ذاك، فاستوى الظاهر والباطن وارتاحت من الوساوس والتردد والإلتواء.
2) وثمة نفوسٌ أخرى أوغلت في الباطل ولكنها قوية فأعلنت أمرها واستوى ظاهرها كباطنها على فجورٍ وباطلٍ تعلنه، ولا تشعر أنها بحاجة لتداهن أحدًا أو تتجمل أمامه.
وهؤلاء إن علموا الحق وتخلصوا من الهوى احتضنوا الحق واستقاموا عليه، وأمسكوا به كما تمسك الأم بوليدها، رغبةً فيه ومحبةً له.
وطبيعة الحق أن تخالط بشاشته القلوب فتتشربه القلوب ويسري في جنباتها ويقرّ فيها إذ هو وعاء صالح ومحل لمعرفة الرب تعالى ومحبته.
3) ولكن ثمة قلوبٌ أخرى ترى أوضاعًا فيها ظهور للحق وقوةً لأهله، ولها رغبةٌ أن تنال مطالبها بين أهل الحق أو تأمن مخاوفها بينهم، ولكن هؤلاء نوعان:
1) منهم صنفٌ ضعيف البصيرة لا يقوى على رؤية الحق؛ فهو منزعجٌ من مجرد تصور الحق، يلمع له فيكاد يذهب ببصره لأنه فطرة منتكسة وبصيرة ضعيفة، يسمع المواعظ كالرعد فيخاف، وقلبه ممتلئٌ بظلمات الشبهات والشكوك والإرادات المنحرفة والباطلة والمناوئة للحق..فهو متخبط بين ظلمات ورعد وبرق..
وأما الماء الذي به تحيا القلوب فلا ينتفع به لخبث طينته وفساد خامته، فهو حالةٌ مستمرة في اضطراب يقدم خطوة ويؤخر أُخرى ولا يستقيم قليلًا إلا وينكص سريعًا وينتكث عهده وينقلب أمره، فهذا بعض ما في قوله تعالى (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق..) (يكاد البرق يخطف أبصارهم) (كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا..).
2) ونوعٌ ثانٍ قدمت الآيات الخطاب بشأنه وضربت له مثلًا، وهو من عرف الحق لكنه نكص فأنكر بعد معرفةٍ وجهِل بعد علم وأبغض الحق بعد محبته، ونفر قلبه بسبب سوء طويته وخبث حاله وذنوبه الدنيئة، ففي آياتٍ أخرى كثيرة ذكر أن إضلاله لمن أضله يكون عقوبةً له على ظلمٍ وانحرافٍ ومرض قلب لم يطلب شفاءه فيما أنزل الله ولم يطلب من ربه هدايته بل رجع القهقرى، وأنكر ما كان يعرف وجهل ما كان يعلم وأبغض ما كان يحب.
فهذا النوع ضرب له مثل بمن استوقد نارًا وهو في سفر، والنار يطلب المسافر ـ قديمًا ـ إضاءتها لأمور:
الإضاءة في ظلمة الليل، والاستدفاء في البرد ومنافع طعامه وشرابه، فلما تم له ما أراد واستوقد فأضاءت ورأى الطريق مشرفًا وواضحًا، حدث له حادث من خبث يحمله، ترتب عليه أن ربه تعالى نزع منه منفعة ما فعل.
أما النار ففيها الإضاء وفيها الإحراق، فلما غضب الله تعالى عليه عاقبه، وأعظم العقوبات عقوبات الدين، فحرمه تعالى من النور والإضاءة فقال (ذهب الله بنورهم) ولم يقل (بنارهم) فبقي له الإحراق والألم، وحرم من الإضاءة والمنفعة.
فالنفاق نوعان، نوع لم يزل صاحبه في شك وريب أو نفرة وإنكار دائم.. ونوع استقام ثم حرم؛ قال تعالى (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطُبع على قلوبهم) وقال (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازداداو كفرا لم يكن الله ليغفر لهم لا وليهديهم سبيلا).
فالحذر الحذر من سيئات السر واستبطان الشر.. فإن الإيمان الضعيف قد لا يثبت أمام فتنة من شبهة أو شهوة أو مخاوف تعرض للإنسان، فقد يحدث النفاق حينئذ.
لا يلزم المنافق أن يكون منافقا منذ البداية، بل قد يكون مؤمنا ضعيف الإيمان ثم يطرأ النفاق في لحظة طارئة بسبب زوال الإيمان أمام فتنة يكون ثمنها فادحا من كراهة للدين أو ولاء للكافرين أو خيانة للمسلمين.. فاللهم سلم.