عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» (رواه ابن ماجه والبيهقي وصححه الالباني في الصحيحة:106).
ما أبأس الحياة عندما يستهين الناس بآثامهم ومعاصيهم، وما أضيق الدنيا -كل الدنيا- عندما تصير معصية الرب العظيم سبحانه شيئًا متداولًا مستساغًا!
إن مسيرة الكون والحياة كلها قائمة على طاعة الله ورضاه، وكل تقصير في جانبه سبحانه من قبل خلقه يؤثر سلبًا في تلك المسيرة. فالطاعة تفيض بركة وكرامة على صاحبها ومحيطه من الأحياء والجمادات، والمعصية كذلك بالعكس، حتى إنها لتؤثر في أخلاق الناس والدواب.
وتصور معي مجتمعًا قد اتخذ قراره في مصادمة قوانين الكون، فاستهان بغضب ربه العزيز الحكيم، وأغفل سخطه سبحانه، فلم يبال به، وأعان على الذنب والمجاهرة به، هل ينتظر إلا أنواعًا مختلفة من الخراب والتراجع والتدهور؟
إننا ولبعدنا عن المعاني الشرعية الربانية نعاني معاناة كثيرة من مصائب وآلام مختلفة فنبحث عن أسبابها المادية كل بحث، ونغفل عن أسبابها الإيمانية تمام الغفلة، حتى إننا لنسمي الملاحظ لها موهومًا أو خياليًا!
قال ابن القيم: "اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات وقلت الخيرات وهزلت الوحوش وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكى الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد أدلهم ظلامه، فاعدلوا عن هذا السبيل (سبيل المعاصي) بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" (الفوائد).
روى الإمام أحمد عن جبير بن نفير عن أبيه قال: "لما فُتحت قبرص فرق أهلها فبكى بعضهم على بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله في الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمةُ قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترى".
ثم انظر إلى هذا الحديث العظيم الذي صدرنا به المقال، ويتضمن أوصافًا خمسة أو خصالًا خمس، إذا وقعت فيها الأمة، أتاها العذاب من الله سبحانه وتعالى معجلاً في الدنيا، بخلاف ما ينتظرها في الآخرة من الوعيد.
فالأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: «لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا»؛ فهو تحذير صريح من ارتكاب الفاحشة من الزنا واللواط وإتيان المحارم وكل تلك البلايا التي انتشرت في البلاد حتى اشتكى منها الحجر والشجر والدواب. ولننظر كم من مرض قد استجد لم نكن نعرفه، وكم من أشكال جديدة للطاعون والأوجاع قد أصيب بها الناس.
وأما الثانية: فهي قوله: «ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم»؛ فهو تحذير صريح أيضًا من فساد الناس، وفساد الكيل والميزان، ولا شك أن به إشارة لفساد الحقوق الضائعة بين الناس كما يحصل، فيغتني الخسيس ويتكسب بخسته وانحطاط أخلاقه، في حين يفتقر الخلوق لأنه لا يستطيع ممارسة الفساد.
وهنا يحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من التلاعب بالمكيال والميزان، الذي توعّد الله فاعله بالويل والهلاك، قال تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1-3]، فإذا انتشر ذلك في الأمة، فإنها تعاقب بعقوبات ثلاث: أولها: منع المطر أو ندرته، وثانيها: شدة المؤونة، ويكون ذلك بغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وضيق العيش، وثالثها: أن يسلط الله عليهم الجور وفرض الضرائب وغيره من العنت.
وأما الخصلة الثالثة فهي قوله: «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا». هذا المجتمع الذي انتشر فيه نسيان حق الله سبحانه، يتوقع منه الغفلة عن الزكاة أيضًا، وهي حق الفقير، ويشير النبي صلى الله عليه وسلم هنا إلى أن منع الزكاة وعدم إخراجها أو التحايل على ذلك، تكون عقوبته العاجلة هي منع القطر عنهم، وهذا قد يوضح سبب الجدب الذي ضرب أطنابه في الأرض.
وأما الخصلة الرابعة فهي قوله: «ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم»؛ وفيها تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من نقض العهد والميثاق، وعاقبة ذلك أن الله يسلط عليهم عدوًّا من غير المسلمين، فيسومهم العذاب بأشكاله وطرقه.
والخامسة قوله صلى الله عليه وسلم: «وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم»؛ أي: إذا لم يحكموا بحكم الله سبحانه وتعالى، ويأخذون الخير من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا جعل الله الشقاق والعداوة والتنافر بينهم.
إن أمتنا لن يجمعها سوى كلمة التوحيد، ولن يوحدها إلا الإسلام، ولن يصلحها إلا العودة إلى دينها والتوبة إلى ربها، والاستمساك بمنهاجها، والتطهر من دنس الذنوب والآثام، وعندئذ يبدأ نبات العزة ينبت في أرضها وينزل غيث البركة من سمائها.