إنَّ الحياة بلا أهداف نبيلة وغايات عظيمة هي أشبه بالموت، وإن الثَّباتَ على الجمود وانْحِسار ذاك الدَّبيب والحركة الباعِثَة لفورة النشاط والجد هي أشبه بالإصابة بالشَّلل الحركي.
وإنَّ الإنسان الذي لا يحمل بداخله رسالة نبيلة يحيا لأجل تحقيق أهدافها ويوقِف لخدمتِها أنفسَ ساعاتِه، يصبح أشبه بالميِّت من الأحياء، همَلاً ليس له أثرٌ يذْكَر ولا بصمةٌ تخلّد أخبارَه وتنقش إسمه في الذَّاكرة وتاريخ الأمة الحافِل بالأمجاد.
ويظلَّ مغمورًا في محيطِه الضيِّق وعالمه المُغْلَق، سجينَ واقعه المظلم وحبيس أهوائِه التي تهوى به في مداركِ الشَّهوات فتغرقه في مراتعِ الزَّلات وتتجاذَبُه إغراءات المطامِع والمطامِح السَّاقطة، فينْسلِخ عن فطرته وطبيعته ويتحوَّل إلى مسْخٍ إنساني وأشبه بتمثال صخري لا شيءَ يحرِّكه من مكانه، خامِلاً في عطائه وإنتاجه الثقافي والمهني، راكِدًا في مجراه كأوراق الخريف الذَّابلة.
ولكن هذا الوجود الرَّحب يحتوي من الأسرار والغايات ما تستحقُّ حفظنا لتلك الأمانة الجليلة التي استخلفنا الله عليها وأن نؤدِّيها بشرف ونزاهة، ونتحرَّر من ذاك الوجود الضيق الذي يحجُب عنَّا الإحاطَة بتلك الأسرار والمعاني العميقة التي تتحرَّك بها هذه الأنفاس الصَّاعدة والنَّازلة، والنَّبضات التي تهزُّ الصدر هزًّا فتوقِظ فينا الشُّعورَ الجامِد بدورة الحياة وصبيبِ الدَّم الجاري في عروقنا، كي نمضي في طريقٍ شاقٍّ وعر وأرواحُنا سابحة في الكون تلبِّي نداء التكبير والتهليل والتمجيد والتعظيم لمن أوْدعَها في هذه الأجساد ولم يقيِّدها بالأثقال، تتنفَّس بأنفاسها وحركات جوارحها وتنشَط لسعيها في الأرض على نورٍ وبصيرة.
فإيمانك هو مصباح قلبك؛ ومتى انطفأ نوره السَّاطع بداخلك صارت روحك معتَّمة تعيشُ الضَّنك والشدة، مصداقا لقول الحق سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ} [طه:123-126].
فليس العَمى هو السَّواد الذي تراه العيون التي حُجِب عنها الإبصار، فالقلوب لها عيونٌ تُبْصِر النُّور الذي يختبئ في سُرجِ الظَّلام. إنما العَمى الحقيقي هو الشعور بالظلام حين يغشى قلوبًا جفَّت مجاريها ونضبَت في عروقِها مصبَّات الدِّماء، وخمدَ في مآقيها فتيلُ الأنوارِ السَّاطعة، وتوقَّفت تغاريد الإيمان الصَّادِحَة على عرش نبضاتها، وتعالى الحق سبحانه الذي أرشدنا إلى هذه العبر والعِظات البليغة لنهتدي بها فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
وإيمانك يدْفَعُك إلى غايةٍ أسْمى، فأنت لا تستمِدُّ قيمتَك الحقيقية ممَّن حولك من العبيد الفقراء لأنَّهم لا يملكون أكثر ممَّا أنت تملكُه، وما جُمِع بين أيديهم هي هِباتٌ ونِعَمٌ مُهْداة إليهم من صاحب النَّوال والعَطاء سبحانه، وما أدركوه من الدنيا الفانية لا يتعدَّى نقطةً من بحر علمه الواسع.
فاجعل إيمانك يرفعُك إلى القمة، ويدْفَعُك إلى طلبِ المعالي وبلوغ الغاياتِ الأسْمى، والمُجاهَدَة في رحلة الفلاح والفوز بالجنَّة، وفي سباقِ الطَّاعات مع الزُّمرة الأولى التي توحَّدت قلوبُها وغاياتها بوحدةِ الإيمان ورباطه المتين وتدثَّرَت بدِثارِ نوره وجلاله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا اختلافَ بينهم ولا تباغُضَ، قلوبُهم قلبٌ واحدٌ، يُسَبِّحونُ اللهَ بكرةً وعَشِيًّا» (رواه البخاري).
واجعل إيمانَك يسمو بك عن سَفاسِف الأمور وأَوْشالِ الحظوظ وأَخَسِّ الرَّغبات وأَصاغِرها، ويرْفعُك عن مخالطة كل ردِيَّة تُرْديك وخصْلَة مَذْمُومَة تخلع عنك هيبتك ووقارك، واجعل إيمانك يرْتقي بك مداِرجَ العزِّ والمجد والرِّفعة، فيصْغُر العالَم بأجزائه الكثيفة في محيطِ بصرِك وقلبك العامر بالإيمان، ويتلاشى كبُقْعَةٍ صغيرة قد جرفَت إلى طينَتِها الصَّلبَة المتشقِّقَة ما اسْودَّ من دفائن النفوس وأحَطِّ الغايات، وغرست في أرضها القاحلة الجَرْداء أَدْنِياءَ العَبيد فتلوَّنوا بألوانها الجافة اليابسة وتصحَّرت مشاعرهم من مخالطتها، وقد أنْهكتهم الرَّغَباتِ والنَّزوات، وأطاحَت بهم الأفكار والمذاهب المُنْحَرِفة فتجرَّدوا من صفاتهم البشرية، وخلعوا عنهم جلد إنسانيتَّهِم النَّاعِم، ولبِسوا للحياة المادِّية لباس أهلِ الصَّولة والخلاعَة، بعد أن شَبُّوا عن الطَّوق فصار الحكم فيهم فريسة القويِّ المسْتَأْسِد ..
وإيمانك يهَبُك الحرية والحياة المضاعفة؛ فالإنسان المؤمن يجِدُ سعادته في لذَّة العبودية، فيسطع قلبه بنورها الإيماني ويسري بداخله سريانَ الدِّفء المنبعث من الشمس أوَّل ظهورها بذاك الصفاء والنقاء والإشراق، ويصبح له كيانٌ شامِخ ووجودٌ يتمثَّل الحرية المرتبطة بقوة التوحيد، في أنفاسه وخلجاته، وفي تلك العين التي تتأمَّل وتتدبَّر، وتلك البصيرة التي تكشف له حقيقة الأشياء ومعانيها، وتلك الحواس التي تحرّرت من كل عبودية لغير الله، فصار التوحيد لها منهجًا وطريقًا، ومعالم تحدِّد غاياتها.
أما الحياة المنعَّمة بنعيم الملذَّات الفانية، والمُفرِطة في الإقبال على ترفِ الحاجات، وتلْبية نداء الرَّغبات، وتحقيقِ مطامِح النفس التي لا تقنع إلا ببلوغ ما لا يسَع العمر بلوغَه،فهي تُلْقي بصاحبها في مراتِع الشهوات، وتغرقُه الأهواء في بحرٍ تتجاذبُه أمواج الفتن، فتصرفُ روحه عن ارْتِقاء مدارجِ السَّالكين طريق الله، وتقيِّد جسده بالقيود والأغلال المادِّية حتى تُرْهِقه بالإِشْباعِ الزَّائِد عن حاجة النفس الضروريَّة.
فما أجمل أن يمتلك الإنسان حياة مضاعفة ومشرقة بسِراج المعرفة، فلا تبْرد جذْوة معانيها العزيزَة في ميزان الإيمان والتقوى بقيمتِها النَّفيسة، وقيمِها الإنسانية والفكرية العظيمة، وإن كانت خامِلَة في ميزان المادة.
وما أسعد النفس المؤمنة بما تَزْرعُه من الطيِّبات، وما تلْتقِطُه من سنابلِ الخَيْرات، وما تحْصُدُه من الرُّطَب وأَعْذاقِ الطَّاعات، فتروم مرامَ العارفين بالله، مُقْبِلةً على الله إقبالَهُم عليه وقد تحلَّلت ممَّا تحلَّلوا منه من قيود العبوديَّة وفِتَن المادَّة، وانصرفَت انْصرافهم للطاعات، وتطهَّرت مما اسْوَدَّ من الضَّغائنِ والأحقاد، والخطايا والآثام، والأَخْلاطِ الرَّديئة، ترْتوي من رَشْفِ منابع الفطرة حتى تطيبَ وتلتذَّ بسِقائِها العذْب، وتتَنفَّس بأنفاسِها في فضائِها الرَّحْب ..