قد يستغرب بعض الناس وجود مثل هذه السُّنَّة، وهي سُنَّة اتخاذُ مسجدٍ في المنزل؛ خاصة مع صغر مساحة معظم البيوت في زماننا، ولكنها سُنَّة نبوية جميلة تُحَقِّق فوائد مهمَّة، وليس بالضرورة أن يكون المسجد الذي يُتَّخَذ في البيت منفصلاً عن البيت، أو له حجرة خاصة؛ إنما المقصود تخصيص مكان في البيت يكون مَحِلاًّ للصلاة، وإعطاء هذا المكان شكل المسجد ببعض الترتيب البسيط، وجاءت هذه السُّنَّة في أحاديث مختلفة؛ فقد روى الترمذي وأبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ".
وروى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِهِ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَأْمُرُنَا بِالْمَسَاجِدِ أَنْ نَصْنَعَهَا فِي دِيَارِنَا، وَنُصْلِحَ صَنْعَتَهَا وَنُطَهِّرَهَا".
ويرى بعض العلماء أن المقصود بالدار هنا هو محلُّ القبيلة أو الحيِّ، وليس المقصود به المنزل الخاص بكل إنسان؛ ولكن يرى آخرون أن المقصود هو منزل الفرد، وفيه يمكن للمسلم أن يُصَلِّيَ النوافل، وقيام الليل، وتُصَلِّي فيه المرأة، وكذلك الرجل إذا تعذَّر ذهابه للمسجد الجامع، ويُؤَيِّد أن المقصود بالدار هو المنزل الخاص ما رواه البخاري عن عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سَالِمٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَإِنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي، فَلَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَ، فَصَلَّيْتَ فِي بَيْتِي مَكَانًا حَتَّى أَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا. فَقَالَ: "أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ". فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ: "أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟"، فَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ المَكَانِ الَّذِي أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَامَ، فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ.
فهذا المسجد الذي في حديث عتبان رضي الله عنه هو مجرَّد زاوية من زوايا البيت، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ".. ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ..".
وكان هذا بفترة مكَّة قبل الهجرة، والواقع أن وجود مثل هذا المسجد في البيت سيُعطي الراحة النفسية للمُصَلِّي، كما سيكون مكانًا لتعليم الأطفال الصلاة، أو الاجتماع على قراءة القرآن، كما أنه سيُبْرِز اهتمام الأسرة بالصلاة، وقد يراه زائر لا يُصَلِّي فتعظم في قلبه الصلاة، وهذا كله بالإضافة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بهذه السُّنَّة وحسَّنها.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].
المقال السابق
المقال التالى