حصْر الصِّيام في خانةِ التعبُّد الفرديِّ انتقاصٌ من هذه الشَّعيرة العظيمة، التي تهتزُّ لها مشاعرُ المسلمين كلَّ سَنة، وتُغيِّر حالهم وتُبدِّلهم تبديلًا، وهذا في حدِّ ذاته دليلٌ على بُعْدها الاجتماعي وامتدادها في المستويات الذِّهنيَّة والسلوكيَّة العامَّة، فضلًا عن مجال العواطِف والمشاعِر.
تناقض مرفوض:
إنَّ أوَّل ما يستوقفنا في شمولِ الصِّيام أنَّ آياته في سورة البقرة[ ] جاءتْ بصيغة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ}، وتوسَّطت أحكامًا شرعيَّةً متعدِّدةً:
1. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178].
2. {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180].
3. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216].
فالذي كَتَب صيام رمضان[ ] وفرَضَه هو -سبحانه وتعالى- مَن كتَب وفرَض أحكام القِصاص والوصيَّة والقِتال، فما بالُنا نلتزم -كأمَّة ومجتمع منظَّم- بأداء فريضةِ الصيام[ ] والوصيَّة، ونتجاهل فريضةَ القِصاص، مع أنَّها ضمانٌ للحياة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، وأصبحنا نحتكِم في الجرائم المختلفة إلى القوانين الوضعيَّة، ويعتبر كثيرٌ من سياسيِّينا ومثقَّفِينا القصاص قانونَ غابٍ، وأحكامًا همجيَّة لا تُقرُّها الحضارة والإنسانيَّة؟!
ولوِ الْتزمنا بأحكام الشريعة[ ] كلِّها كما نلتزم بصوم رمضان، لَمَا غدَتْ مجتمعاتنا مرتعًا للجريمة المنظَّمة، واختلاس المال العام، والرِّشوة المقنَّنة، وخطْف الأطفال، والاغتِصاب والزِّنا، والحرابة، وغيرها من الآفات المدمِّرة للمجتمعات.
أمَّا قِتال الأعداء الذين يحتلُّون أراضيَ المسلمين، ويُسيمونهم أنواعَ الهوان، فقد كدْنا نتخلَّى عنه هو الآخِر؛ لأنَّ ثقافة الاستسلام طالتْه بأمواجها، فغدَا الجهاد[ ] إرهابًا يُندِّد به ساسةٌ ومفكِّرون وإعلاميُّون "مسلمون" في لحْن يتعاظم رجْعه؛ إرضاءً للغرْب العدواني المتغلِّب الذي يُبشِّر بثقافة "السِّلم واللاعُنف والإخاء الإنساني"، ويُعاملنا بضدِّ هذه المعاني تمامًا، والمصيبة أنَّ فينا سمَّاعين لهم!
الحجاب[ ] والأخلاق:
من جِهة ثانية، أيَّ تناقض تعيشه المرأة[ ] المسلِمة التي تصوم النَّهار وتقوم الليل، ثم تخرُج إلى الشَّارع، وتقتَحِم مجالس الرِّجال بحجاب "الموضة"، هذا اللِّباس المتبرِّج الذي يَصِف ويَشفُّ، ويلفت الانتباه، وهو بكلِّ تأكيدٍ مَظِنَّة الشُّبهة والرِّيبة؟!
فهي كالّتي نقضَتْ غزْلَها من بعدِ قُوَّة أنكاثًا، بل يصدق فيها قول الله -تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85].
وكيف يستسيغ الأبُ والزوج والوليُّ هذا التناقضَ في بيته وعِرْضه؟! {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
ومعلومٌ أنَّ فرْض الحجاب جاءَ في خِطاب للرَّجل باعتباره قوَّامًا على المرأة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59].
إنَّ إشاعةَ الفاحشة أصبحتْ شيئًا مألوفًا في ظلِّ العولمة الطاغية، التي جعلتْ من المرأة أداةً لاختراق الدِّين والأخلاق، وكان مِن المفروض أن يقِف المسلمون -ذكورًا وإناثًا- سدًّا منيعًا أمامَ هذا المخطَّط، لكنَّ المصيبة أنَّ كثيرًا منهم صاروا سندًا له، وكأنَّهم لا يحسُّون بالتناقض الصارِخ بيْن انتمائهم الدِّيني، وسُلوكهم الدَّاعم -بشكل من الأشكال- للرذيلة والفاحِشة والانحلال الخُلقي.
والشَّهْر الفضيلُ فُرْصةٌ للتوبة الواعية النَّصوح، والانخراط مجدَّدًا في صفِّ الْتزام المرأة بدِينها؛ لتكونَ عامل بناءٍ، لا عُنصرَ هدْم.
الجرح الفلسطيني وغيره:
يحتفل المسلِمون بقدوم رمضان، ويجعلون منه شهرًا متميِّزًا، وحُقَّ لهم ذلك، لكنَّ الفرحة لن تكتملَ ما دامتْ بلاد إسلاميَّة شتَّى تحت الاحتلال الأجنبيِّ وأهلها، يُعانون الإذلالَ والحَبْس والحاجة، ويُفتنون في دِينهم، وينظرون بلا حولَ ولا قُوَّة إلى أرْضهم تُخرَّب، ويَعيث فيها المحتلُّون فسادًا، يحدُث في فلسطين[ ] -والأقصى قاب قوسين أو أدنى من الهدْم- وفي أفغانستان والعِراق، والشيشان وكشمير، وجنوب الفيليبِّين وغيرها، وكان ينبغي أن نجعلَ مِن رمضان محطَّةً للتنادي القويِّ بتحرير بلادِ الإسلام، وقد أكْرَم الله -تعالى- المسلمين بانتصاراتٍ باهِرة عبر التاريخ في شهْر الصيام، مثل: غزوة بدْر، وفتح مكَّة والأندلس، وعيْن جالوت، وحرْب رمضان.
فكان إذًا شهرَ تَضحِية وبذْل، ونَصْر لدِين الله، ورَفْع لراية الإسلام، كأنَّ الله -تعالى- أراد أن يظهرَ فيه البُعد الاجتماعي بكلِّ وضوح؛ حتَّى لا ينكفئ فيه المسلِم على نفسه رغمَ ما هو عليه من عبادة وتبتُّل، وترتيل وذِكْر، وصَدَقة.
مدرسة فريدة:
إنَّ رمضان مدرسةٌ تربويَّةٌ فريدة، تشدُّ المسلِم إلى ربِّه تائبًا منيبًا خاشعًا، كما تشدُّه إلى أمَّته ومحيطِه في توبة جماعيَّة مرْجُوَّة: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النو:31]، توبة تُجدِّد الانتماءَ لدِين الله وأمَّة الإسلام، فيمتدُّ الْتزام المسلِم عموديًّا يبتغي رضا الله، وأفقيًّا يلتحِم مع قضايا أمَّته، فيشحذ عزيمتَه؛ ليندمجَ في الإصلاح والتغيير الإيجابي، دفعًا للمعتدي، وجلبًا للمصالِح، وإسهامًا في جهود التنمية الرُّوحيَّة والاقتصاديَّة.
بهذه الاستفاقَةِ الرَّمضانيَّة، والحركة الإيمانيَّة، يستحقُّ المسلِم الفرحتين، والدُّخول مع الوفد الكريم مِن باب الريَّان، وشتَّان بيْن مَن يعيش لنفسه -ولو متعبِّدًا لله- ومَن يعيش لأُمَّته ودِينها وقضاياها.
المقال السابق
المقال التالى