يمر علينا رمضان[ ] أيامًا كريمة، تكثر فيها الصالحات، وتنشرح فيها الصدور لعمل الخير، وتحيط فيها البيئة الإيمانية بالناس في غدوهم ورواحهم، فتتيسر العبادات ويتشارك الناس فيها، وتعم النفحات الإيمانية العاطرة..
وبيوتنا في رمضان[ ] بيوت تنتشر فيها الفرحة بالشهر الكريم، وتحيط بها بشارة نقية بفتوحات ربانية ورزق واسع من الطاعات والعبادات.
بيوتنا في رمضان[ ] نموذج يحتذى في العالم النقي الصادق وفي المدن الفاضلة، وكل ذلك عندنا حقيقي واقعي لا مجرد رواية أو قصة أو كتاب أو خيال..
إن أملًا يعتريني بينما أكتب تلك الكلمات في بيوتنا التي تعيش أيامًا ربانية أن تطبق ما أتحدث عنه وأرجوه مما نصح به الحبيب الكريم صلى الله عليه وسلم من قرب إلى الله في أيام رمضان[ ] ، رجاء الغفران والعفو والعتق من العذاب، وكيف لا آمل ذلك ولا أرتجيه وهو قد حدث في بيوت القرون الفاضلة، وبيوت الصالحين في كل زمان و وهو يحدث بالفعل في بعض البيوت الصالحة في هذه الايام..
إن طمأنينة علوية تعلو البيت المؤمن في رمضان[ ] ، تٌسكن قلب الكبير، فتدعوه لرفع يديه داعيًا ربه لولده الصالح أن يحفظه من كل سوء وربتة حانية على ظهر طفل صغير ترسم بسمة صافية على شفاهه، فيُسارع إلى تقليد أبيه في الصلاة والسجود.
ونظرة مشفقة من عين أم لابنتها، تدعوها بها إلى الإفصاح عما يحزنها ويدور بخلدها، فتقترب البنت، وتبوح بكل ما يزعجها، فتعلمها أمها الصواب والخير.
وموقف حرص ونصح أمين من أخ لأخيه، يمنعه به عما يضره، لينقش رسمًا صالحًا في ذاكرة الأخ، فلا يُنسى عبر السنين. وصلة رحم نقية من قريب إلى قريب لتبارك الرزق[ ] وتنسأ الأثر.
ومن مثلنا نحن أمة الإسلام في بيوتنا؟! فالوالد في بيوتنا: راعٍ، ومربٍ، وخطيبٍ، ومعلمٍ، وإمامٍ، وقدوةٍ، وحارسٍ، ونبعُ شفقة.
والأم في بيوتنا: رقة وحنان، وخدمة، وعطر يملأ جنبات البيت، وحبل ارتباط بين الجميع، مربية ومعلمة، وناصحة وموجهة وقاضية بالعدل، وحافظة لحدود الله.
والابن في بيوتنا: نِتاج حلال وبركة، ثمرة حلوة نضرة، مذاقها حلو وريحها حلو، يحفظ الآداب، وينبغ في العلم، ويتفوق في المروءة، وينشأ في طاعة الله.
والبنت: زهرة متفتحة، وحياء بالغ، وحجاب مُسدَل، وقِيَمٌ ومبادئ، وشخصية قوية وأثر إيجابي فعال.
والجد في بيتنا كهف عِلمٌ، وقاموس تجربة، ونبع حكمة، له الوقار والتقدير، والمحبة والاحترام، ومنه العطاء الدائم، وعلى يديه تصير البركات والصالحات.
وإذا جاءت أيام الخير اجتمع أبناؤه فتعاونوا على البِرّ والتقوى، فتعاهدوا على الصيام[ ] ، وتداعوا إلى الصدقة[ ] ، وصنعوا منظومة لصلة الأرحام ورعاية الجار، وكتبوا أجندة للطاعات، وخرجوا في منظومة حب وعبودية لدعوة الخلق من حولهم للعودة إلى الله وإعلان الفقر له ورجاء نصرته.
لكأنني أراهم في جوف الليل وقد نزعوا ثياب الغفلة[ ] ، وتخلّوا عن أنماط الكسل، وألقوا بالنفعية والأنانية عبر البحر، أقدموا ولم يحجموا، وفاقوا في خطوهم آثار الخيال، قد تبدى الإخلاص[ ] من حركاتهم وسكناتهم، ورسم التواضع محياهم، وداعب عيونهم البكاء كلما التقوا صغيرًا محتاجًا، أو عاجزًا مقيدًا، أو فقيرًا حييًا.
فما أحسن أثرهم على من حولهم من الناس، وما أطيب عطرهم العبق الفائح تهذيبًا وتأديبًا، وما أعمق بصماتهم على وجه الأيام بين الناس إصلاحًا وتقويمًا.
إن تلك البيوت على الحال التي ذكرناها، لتعد نموذجًا نورانيًا في مجتمعاتنا، ولبنة صلبة تقيم عود المجتمع وتشد جيده، وتقوي عَزمه، وترفع قدره وقيمته نحو الإنجازات العاليات.
تقول سعدى زوجة طلحة بن عبيد الله ك دخلت عليه فرأيت منه ثقلًا (تعني همًا) فقلت له: ما لك لعلك رابك منا شيء (أي لعله صدرت منا إليك إساءة) فنعتبك؟ (أي فنعتذر منك) قال لا، ولنعم حليلة المرء المسلم أنتِ، ولكن اجتمع عندي مالٌ ولا أدري كيف أصنع به؟ قالت: وما يغمك منه؟ ادع قومك، فاقسمه بينهم!
فقال: يا غلام! علي بقومي. قالت: فسألت الخازن كم قسم؟ قال: أربعمائة ألف (رواه الطبراني وهو في صحيح الترغيب).
وفي المعنى حديث عائشة[ ] مرفوعًا "إذا أنفقت المرأة[ ] من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما اكتسب وللخازن مثلُ ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئًا" (رواه البخاري[ ] ومسلم).