قبل أن نتطرَّق إلى موضوع الحب الحقيقي، كان لزامًا علينا أن نتعرَّض لتعريف بعض أنواع الحب؛ فمثلاً: الحب الذي يكون بين رجل وامرأة، وهو الذي يُعرف بكلمة الحب مجرَّدةً؛ لأنه إذا ذُكرت كلمة الحب فإنه أول ما يَنصرفُ ينصرف إلى هذا النوع من الحب.
وهناك حبُّ الوالدَين لأنبائهما، وهو الحب الذي يَسير في اتجاه واحد بلا رجوع، وذلك مِن ناحيتهما، وهناك حبُّ الإخوة لبعضهم، وهو الحب المَمزوج بأُخوَّة النسب والدم، وهناك حبُّ الأصدقاء، وهو الحب الذي إذا صدَق قد يكون مِن أرقِّ وأفضل أنواع الحب، وهناك حبُّ المصلَحة وتَبادُل المنافع، وهكذا، وللحب أنواع كثيرة.
فإذا نظرنا إلى الناس الذين يَتغنَّون بالحب ومَعانيه، وأهدافه وأوصافه ومراميه، وكلٌّ منهم يزعم أنه صاحب الحب الحقيقي، وقد يكون هذا الحب موجَّهًا إلى حبيبٍ طالت الأيام في وصف جماله ومحاسنه، ووصفِ خفَقات القلب عند رؤيته، وتَلعثُم اللسان وخُسوف البصر عند اللقاء، ورعشة اليد عند السلام، وقد يكون هذا الحب موجَّهًا إلى أبٍ أو إلى أمٍّ ملأ حنانهما القلب، ويَزيد في عشقِهما أنهما سبب الوجود، وأن العبور لا يأتي إلا على صراط رضائهما، وأن الخلود معقودٌ على ناصيتهما، وأن الله لا يرضى إلا برضائهما، وفي هذا يقول الحق: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]، والآيات كثيرة في هذا الشأن.
وقد يكون هذا الحب موجَّهًا إلى أخٍ أو أختٍ يَجمعُهما الدم الواحد الذي يَجري في عروقهما، فإذا انشقَّ الحبُّ جمعَهما سرُّ الحياة نبض القلب، واصل الأوطار، جابر الإرادة على السير، عاشق الروح، فإن فارَقها فارقته، وإن تمسَّك بها أمسَكتْه، وهذا هو السرُّ الذي يَجمع بين الإخوة ولو تنافَرت المصالِح واختلفَت، وفي هذا يقول الحق: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]، انظر إلى حنان يوسف عليه السلام مع إخوته بعد ما فعَلوا معه ما فعلوا، وهذا ما نَقصِده من الدم الواحد الذي يَجري في عروقهما، فضلاً عن سماحة وعلوِّ قَدرِ النبوة في شخص يوسف عليه السلام.
وقد يكون هذا الحبُّ موجهًا إلى صديقٍ حميم وفيٍّ تجد عنده ما لم تَجده عند الآخَرين، حتى ولو كانوا أقرباء أشقاء، وفي هذا يقول الحق: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
وعلى كثرة اختلاف الاتجاهات والنزعات في أنواع الحب، نجد أن الحب الذي يَشيع ذِكرُه بين الناس هو الحب الذي بين الرجل والمرأة، وقد روى التاريخ على مرِّ العصور قصصًا وألوانًا شتى مِن هذا الحب؛ حتى إن بعضنا يَحفظ أسماء الرجال والنساء وبعضَ
المواقف التي حدَثت بين أصحاب هذه القصص، وقد ذُكر في بعض هذه القصص أن الحبيب كان إذا رأى حبيبته بعد طول غياب -وقد يكون هذا الغياب عندهم يومًا أو يومين- كان يَنحصِر مكانه؛ مِن فرط شوقه إليه، فإذا سلَّم عليه لا يريد أن يَنزِع يدَيه مِن يدَيه؛ فهو يشعر عند ملامسة يدَيه كأن الحنين سرى في باقي جسده، يَنزع منه العناق انتزاعًا، وكان إذا نظر إلى عينَيه كأنه يَسبح في الفضاء كنجوم تتلألأ في سواد عينيه، فإذا تكلَّم كأن اللؤلؤ يَتناثر مِن بين شفتيه، وإذا كان اللقاء في بيداء الشتاء ملأ الدفء ما حولَهما حرارة اللقاء.
ولم يذكر لنا التاريخ قصةً واحدةً مِن هذه القصص ظفِر فيها الحبيبُ بحبيبه، ولو حدث ذلك ودامت العِشرة بينهما، لكنا رَأينا ما نراه الآن بين من كانا حبيبَين بالأمس، واليوم أصبَحا المُتعارِضَين! فما الذي تغيَّر بينهما وما الذي تبدَّل؟ أين الأحاسيس المُرهَفة؟ أين الجَمال بينهما؟ أين العِشق الذي كان يُحيطهما؟
إن الثبات على شيء واحد مُحالٌ على الإنسان؛ فهو دائم التغيُّر، لا يخلو حب الإنسان مِن مصلحةٍ ما، حتى ولو كانت هذه المصلحة هي نفسها مبادلة الحب بالحب، وليست أي مصلَحة مادية، ناهيك لو كانت مصلحةً مادية، والذي كانت عيناك لا ترى منه بالأمس إلا محاسِنَه، فاليوم -وبعد طول العِشرَة- تَرى عيناك منه المساوئ.
وهكذا الحال لكل حبٍّ؛ يتبدَّل ويَتغيَّر بتَغيُّر الإنسان وتغيُّر ظروفه وحاجاته، فالأب والأم يُحبان ولدهما، فإذا كَبرا واحتاجا إليه وامتنع عنهما، تسرَّب كرهه إلى قلبَيهِما مِن غير أن يُريدا به شرًّا؛ وهذا لأن الله وضع في قلبيهما حبَّ ولدهما وجبَلهما على ذلك.
وكذلك حب الأخ والأخت والصديق حبٌّ لا يخلو أبدًا مِن تبادُل المصالح، حتى ولو كانت هذه المصالح شريفة وعفيفة، فهي تُعدُّ مِن المصالح التي لا يدوم الحب إلا بها، وإذا فرضنا أن الحب دام بين اثنَين على أفضل ما يكون بين اثنَين، فلا بد أن ينقطع هذا الحب بمَوت أحدِهما، وسرعان ما يَنسى الحبيب حبيبه الذي ذهب، وإذا مرَّ به الزمن وألحَّت به الحاجات، بدأ في حبٍّ جَديد، وهكذا.
ونحن لا نُريد مِن هذا السرد أن نسفِّه الحب بين الناس، ولكن أردنا أن نُلقي الضوء على بعض الجوانب المُظلِمة فيه، وليس معنى ذلك أنه يخلو مِن جوانب كثيرة مضيئة، بل سيظل الحب بين الناس هو الوقود الذي يُحرِّكهم لمَلء جميع زوايا الأرض وما فيها من حياة.
الحب الحقيقي
أما الذي نَعنيه ونُريد أن نلقي الضوء عليه، فهو معنى الحب الحقيقي، فهو المُحبُّ الذي يُحبُّك قبل أن تُحبَّه، ويُعطيك قبل أن تسأله، ويُنعم عليك بدون أن يَنتظِر منك، وإذا احتجْتَ إليه، وجدته في كل وقت، وإذا اعتلاك الهمُّ والغمُّ، لجأت إليه فيَسمع منك شكواك ونجواك دون ضيقٍ ولا ملَل، وإذا استوحَشْتَ، استأنَسْت به فكان خير أنيس ليس له مثيل يملأ عليك وحدتك، فيحنُّ عليك بكلامه الموصول، فيَصِل منك ما انقطع، فتعود الحياة إلى خلايا جسدك، فيَقشعِر جِلدُك، ويَرتعِد سَمعُك فرحًا، ويَتزلْزَل قلبك شوقًا، ويَطير فؤادك حبًّا، ويَزداد عقلك حِكَمًا.
ويُفيض عليك بِسُكوته فيَنشر حبَّه حولك كأنه جنودٌ تَحميك وترعاك، وتملأ ما بين يدَيك وما خلفَك أمنًا وطمأنينة، وسكينة وراحة.
هو الذي لا يَغيب عنك، وإذا ذهبتَ عنه، تقرَّب منك وهو الغنيُّ عنك، يَدعوك لتأتيه ليُعطيك ما عنده وأنت المُحتاج إليه، فإذا أعرضتَ، يظل يَدعوك لا يملُّ من دعوتك حتى تأتيه.
وهو الذي يُمهِلك إذا أغضبته حتى ترجع إليه، فإن رجعتَ لا يُعاتِبك بل يَمحو ما أغضبَه منك، ويُبدلك خيرًا منه، ويقول لك: بابي مفتوح لا يُغلَق في وجه حَبيبي، ويَتلقاك ويَتلقَّفك كحبيبٍ مُشتاقٍ لحبيبِه الذي لم يرَه مِن زمن بَعيد، ويَفرح بك فرحًا كفرحِ الهالِك إذا أوشك على الهلاك، ثم فُتح له باب النجاة.
وفي هذا يقول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: "لَلهُ أفرح بتوبة أحدكم مِن رجل كان على راحلته في الصحراء ففقَدها وأيقن أنه هالك، فنام مِن اليأس ثم استيقظ فوجدها أمامه، فقام يَشكُر الله، قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك؛ أخطأ مِن شدة الفرَح".
وهو الذي يُجلِسك بجواره كأنك تراه وأنت البعيد، ويُجزِل لك العطاء حتى يُحرِّرك مِن عبودية حبِّك لغيره، فإذا مكَروا بك، كان معك؛ يَنصرك عليهم، ويُزيل ضعفَك، ويَزيد قوتك، ويَمحو عدوَّك.
هو الحبيب الأعلى الذي لا حب إلا حبه، وكلُّ حبٍّ يأتي مِن بعد حبِّه ويَنبع منه، فحبه الجمال والجلال والكمال، فالخضوع له عزَّة، والخشوع له رفعة، والأمر والنهي منه منَّةً.
وهو الذي تَراه بعين قلبك، وتَسمعه بأُذن قلبك، وتودُّ لو أن الليل يطول، والنهار يزول، وتَبقى لحظات القبول، فهذا هو الحب الحقيقي.
ولذلك يُهدِّد أحباءه بمُنتهى الرقة في التهديد ويقول لهم: إنه سيتوقف عن حبهم إن هم ارتدُّوا عن دينهم.
وأنا أرى أن هذا هو أقصى عقاب ممكن أن يقع مِن الله على أحد مِن عبيده؛ انظر إلى قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].