تأتي ذكرى الهجرة مع مطلع كل عام هجري جديد لتحمل لنا معاني جديدة لم ندركها بعد؛ لأن أحوالنا تختلف، فنقرأ من جديد سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونكتب عنها بوعي العقل وحب القلب.
أتت الذكرى هذا العام ونحن نواصل النضال اليومي في مواجهة المدينة، ونعايش في قلوبنا ونستلهم نموذج يثرب المدينة.
لم تكن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم فرارًا بل قرارًا، وخرج وهو يناجي مكة أحب أرض الله إليه، وسبقتها بيعة أهل يثرب له ودعوته المرة بعد المرة أن يهاجر إليهم.. وكان القرار السياسي، والمسير الإنساني، والتفاعل مع المكان والكون، وغار وصحبة، ودليل واحتياط، ثم وفد النبي صلى الله عليه وسلم على مجتمع يصبو أن يكون مدينة فاضلة كما وصف الفارابي؛ أملاً في المساهمة في بناء معمورة فاضلة.
والنظر في خصائص المجتمع الذي هاجر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا دروسًا كثيرة في كنه المدينة التي هاجر إليها الرسول ليتخذها منطلقًا لدعوة تخاطب العالمين. كان ينبغي وهو الذي ترك وراءه مكة التي تآمرت عليه قبائلها أن يهاجر لمجتمع متجانس، لا يواجه فيه تعددية تقيد خيارات أو تفرض توازنات، مجتمع متحد على رؤية؛ كي يستقوي به ويسبك بالعقيدة نسيجه سبكًا. لكن يثرب لم تكن كذلك، بل كانت مجتمعًا تعدديًّا، تتنوع فيه الأعراق والأديان، وجاء دستور المدينة ليعلمنا أن الأمم لا تقوم بالضرورة على وحدة رؤية بل على الانتظام في بنيان والالتفاف حول عقد اجتماعي يكونون فيه شركاء في وطن، وحين تخرق طائفة الميثاق تكون قد نقضت العقد، وتتحرك عجلة التغيير والإصلاح، أو المواجهة والحسم.
نموذج المجتمع ذاته نموذج فريد، كانت الهجرة لمجتمع يثرب سعيًا لبناء مجتمع أخلاقي بالأساس وليس بناء إمبراطورية، مجتمع أخلاقي يكون نواة لنشر الدين بتفرد من يحملونه في صفاتهم. انظر كيف وصف القرآن أهل المدينة بأنهم {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].. هؤلاء الذين استقبلوا المهاجرين باقتسام الأموال والبيوت، وبحب صافٍ وافر ويقين.
هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم لمجتمع يحترم النساء، فدعم نساء المدينة وكان يكرر الدعاء لهن، وأفسح المجال لتفاعل اجتماعي تمكنت نساء المدينة فيه من تغيير العقليات نحو مزيد من تفعيل دور المرأة، وضربت نساء الأنصار المثل الأعلى في صدق العقيدة والوفاء بالبيعة، وصولاً للمشاركة في الجهاد.
أعاد الرسول صلى الله عليه وسلم تأسيس المدينة على بناء اجتماعي تكافلي، ومركزية لمساحة المسجد، لا كبقعة مقدسة، بل كمجال عام يقابل فيه الوفود من خلفيات وأديان، ويتحول لمكان يلعب في الحبشة، وتلتقي الجماعة لمناقشة أمورها، وتتعلم النساء.
المدينة هي مولود الهجرة، التفحص في ملامحها يبين مقصود الهجرة وغايتها، والتصور الحاكم الذي أرادت الهجرة أن تحققه. لا ينبغي أن نتذكر فقط لماذا هاجر الرسول؟ بل لأي مدينة هاجر، وأي مجتمع أسس وربَّى.
اليوم نعيش في مدن تأخذ وتعطي، وتشوه بنيان الإنسان الأخلاقي، وتحرمه من شبكته الاجتماعية، فكيف يمكن أن نأخذ من درس الهجرة درس البناء، لا الترك والهجر، وحكمة السعي لرباط اجتماعي وعقد سياسي؟
الهجرة كانت من مدينة تحكمها عقلية القبيلة إلى تأسيس تمدُّن يحكمه دستور وتنظم حياته، عقيدة تقوم على التقوى لا على القمع، على تفعيل حكمة الحدود لا الهوس بإقامة الحد ذاته؛ لذا كان دفع العقوبة بالشبهة وبالستر، فالأخلاق قبل القانون، والكرامة والخصوصية قبل الحكم على الناس وتشويه السمعة. مجتمع يحفظ الناس فيه ألسنتهم لا يطلقونها على صفحات الجرائد والفضائيات تخوض في أعراض النساء وصولاً للطعن في أنساب الأمم، ويحفظ الناس فيه روابط الرحم، وليس مجتمعًا يتنافسون فيه على المال حتى يقيل بعضهم بعضًا، ويرعى فيه الحاكم الناس والحيوانات والحجر وليس يحكمه فرعون قلبه حجر، مجتمع يستوعب اختلاف الدين ويحمي أماكن الرهبنة، لا مجتمع يفزعه التنوع ويشغله القضاء على الاختلاف الذي هو حكمة الله من الخلق، وهو الذي يحكم بينهم يوم القيامة.
دروس الهجرة هي دروس التمدُّن الإسلامي.
اللهم صلِّ على محمد وآله وأصحابه، وارزقنا هجرة إليك باتباع سنته؛ لنتمم مكارم الأخلاق، وحتى نصير أهلاً للرحمة.
المقال السابق