الحمد لله منَّ على عباده بمواسم الخيرات؛ ليغفر لهم الذنوب، ويجزل لهم الهبات، وفَّق من شاء من عباده لاغتنامها فأطاعه واتقاه، وخذل من شاء عن استغلالها فضيّع أمره وعصاه، نحمده أبلغ حمد وأجمله، ونثني عليه الشكر كله ولا نكفره،
وصلى الله على خليله من خلقه وصفيه، وحبيبه بين عباده ونبيه، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، أما بعد..
أيها المبارك:
أولاً: وقبل كل شيء لا بد من حمد الله -عز وجل- الذي أفسح في آجالنا، وأمدّ في أعمارنا حتى بلغنا هذا الشهر المبارك، وأشهدنا أيامه الفاضلة، شهر الله المحرم.
ثانيًا: أخي الحبيب لا بد أن تعلم أن من حكمة الله -تعالى- ودلائل ربوبيته ووحدانيته، وصفات كماله؛ تخصيص بعض مخلوقاته بمزايا وفضائل {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68]؛ ولذا فالله -عز وجل- قد خلق السماوات واختار منها السابعة، وخلق الجنات سبعًا واختار منها الفردوس الأعلى، وخلق الملائكة واختار منهم جبريل وإسرافيل ومكائيل، وخلق البشر واختار منهم المؤمنين، واختار من المؤمنين الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين، واختار من الخليلين نبينا محمد عليه وعلى سائر الأنبياء أزكى الصلاة والسلام، وخلق الأرض واختار من بطحائها مكة، وخلق الأيام واختار من شهورها شهر رمضان، ومن لياليها ليلة القدر، ومن أيامها يوم الجمعة، ومن عشرها عشر من ذي الحجة.
قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "وتفضيل الأماكن والأزمان ضربان:
أحدهما: دنيوي، كتفضيل الربيع على غيره من الأزمان، وكتفضيل بعض البلدان على بعض بما فيها من الأنهار والثمار، وطيب الهواء، وموافقة الأهواء.
الضرب الثاني: تفضل ديني، راجع إلى أن الله يجود على عباده فيهما بتفضيل أجر العاملين كتفضيل صوم رمضان على صوم سائر الشهور، وكذلك يوم عاشوراء، وعشر ذي الحجة... ففضلها راجع إلى جود الله وإحسانه إلى عباده فيها"(1).
خصوصية شهر محرم
ومما اختصه الله -عز وجل- واصطفاه من الشهور؛ شهر الله المحرم، فإنه شهر عظيم مبارك، وهو أول شهور السنة الهجرية، وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]. وجاء من حديث أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ»(2). وسمي المحرم بذلك لكونه شهرًا محرمًا، وتأكيدًا لتحريمه.
وقوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرامًا وعظّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم. وقال قتادة في قوله {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}: "إن الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء".
وقال قتادة أيضًا: "إن الله اصطفى صفايا من خلقه: اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان، والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظّم الله، فإنما تُعَظّم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل"(3).
والحقيقة أن الأعمار كلها مواسم يربح فيها المنيب المطيع، ويخسر فيها العاصي المضيع، يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله تعالى-: "اعلم أن الأماكن والأزمان كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما، لا بصفات قائمة بهما، ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل الله العباد فيهما من فضله وكرمه"(4).
فالسعيد أيها الكرام، من اغتنم مواسم الأيام والشهور والسنوات فاستغلها في طاعة ربه، وتزلف إليه بسائر القربات، عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فتنجيه من سقر، وما فيها من اللفحات.
أفضيلة صيام شهر الله المحرم
ومما ينبغي أن يستغل به شهر الله المحرم "الصيام"، فهو أفضل التطوع للحديث الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل»(5). قال ابن حجر: "قال أئمتنا: أفضل الأشهر لصوم التطوّع المحرم، ثم بقية الحُرم: رجب، وذي الحجة، وذي القعدة"(6). وقال ابن مفلح الحنبلي: "فالتطوع المطلق أفضله المحرم"(7).
وتسمَّية النَّبي صلى الله عليه وسلم المحرَّم شهر الله، وإضافته إليه؛ دلالة واضحة وبينة على شرفه وفضله. والإضافة هنا إضافة تعظيم، فإنَّ الله -تعالى- لا يضيف إليه إلا خواصَّ مخلوقاته، كما نسب محمدًا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- إلى عبوديَّتِه، ونسب إليه بيته وناقته(8).
ما المراد بصيام شهر محرم ؟
قال القاريّ: "الظاهر أن المراد جميع شهر المحرّم(9)، ولكن قد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم شهرًا كاملاً قطّ غير رمضان، فيُحمل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصّيام في شهر محرم لا صومه كله، وقد ثبت إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم في شعبان دون غيره، ولعلّ ذلك لأمرين:
الأول: أنه لم يُوحَ إليه بفضل المحرّم إلا في آخر الحياة قبل التمكّن من صومه.
والثاني: لعله كان يعرض له فيه أعذار من سفر، أو مرض، أو غيرهم(10).
ولمَّا كان شهر المحرم مختصًّا بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصِّيام من بين الأعمال مضافًا إلى الله تعالى، كما جاء في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»(11)؛ ناسب أن يختصَّ هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختصّ بهِ وهو الصيام.
شهرُ الحَرَامِ مُبَاركٌ مَيمُونُ *** والصَّومُ فِيهِ مضَاعَـفٌ مَسنُـون
وَثُوابُ صَائِمِهِ لِوَجْهِ إِلَهِه *** فِي الخُلْدِ عِنْـدَ مَلِيكِه مخزون(12)
ويتأكد صوم يوم عاشوراء -وهو اليوم العاشر من شهر محرم-، والسُّنَّة أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده، وقد ورد في صومه فضل عظيم، فعن أبي قَتادةَ -رضي الله عنه- قال: سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء؟ فقال: «يكفِّرُ السَّنَةَ الماضِية»(13).
أيها الحصيف:
فلنبادر إلى اغتنام مواسم الخير؛ فإنها سريعة الانقضاء، وليقدم المرء لنفسه عملاً صالحًا يجد ثوابه أحوج ما يكون إليه، فإن الثواء في هذه الدنيا قليل، والرحيل قريب، والاغترار غالب، والطريق مخوف، والناقد بصير، والخطر عظيم، والله -تعالى- بالمرصاد، وإليه المرجع والمآب {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
المصدر: موقع إمام المسجد.
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام (1/39).
(2) رواه البخاري برقم (2958)، ومسلم برقم (3179).
(3) تفسير ابن كثير (2/356).
(4) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/39).
(5) رواه مسلم برقم (1982).
(6) مرقاة المفاتيح (4/467)
(7) المبدع (3/ 54).
(8) لطائف المعارف (21).
(9) تحفة الأحوذي (2/425).
(10) شرح النووي على صحيح مسلم (8/55).
(11) رواه البخاري برقم (5472)، ومسلم برقم (1945).
(12) لطائف المعارف (21).
(13) رواه مسلم برقم (1977).
المقال السابق
المقال التالى