روى أحمد وابن خزيمة والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر.. الرياء». وقد جوَّد إسناده المنذري في الترغيب، وصحح إسناده ابن مفلح في الآداب الشرعية، ووضعه الألباني في الصحيحة.
لا حرج أن يفرح المؤمن بثناء الناس عليه، وإنما الرياء ما كانت النية فيه لغير الله، بحيث لو كان المرء وحده لم يعمل.
والرياء أبواب:
1- الرياء بالإيمان: وهو النفاق بأن يظهر الإيمان ويبطن الكفر.
2- الرياء بالجسد: بإظهار ما ينم عن الاجتهاد في العبادة، وتكلف ظهور بقعة في الجبهة مثلًا، أو يبس في الشفتين من أثر الصيام، ومثل طأطأة الرأس في المشي، أو تشعيث الشعر كعلامة للزهد.
3- الرياء بالقول: وهو التسميع «مَن سمَّع سمَّع الله به»[1]. كالنطق بالحكم والآثار والمواعظ لإظهار العناية بأحوال الصالحين، وتحريك الشفتين بالذكر والهمس بحرف السين في حضرة الناس ليقال: ذاكر مستغفر.
4- الرياء بالعمل: كإطالة القيام والركوع والسجود والتظاهر بالخشوع.
5- الرياء بالمكانة: كالذي يتكلف أن يطلب زيارة العلماء وأهل الفضل والصلاح ليقال: إنه منهم.
والمدار هنا على الدافع الأساسي للعمل.
وأصل الرياء هو حب الثناء والحمد من الناس، وكراهية الذم، والطمع فيما في أيديهم.
والعارض أثناء العبادة من ذلك لا يضر ولا يفسد العبادة.
وبعضهم يترك العمل خوفًا من أن يكون رياءً، وهذا الآخر خطأ ومجاراة للشيطان، ودعوة إلى البطالة وترك الخير، فما دام الدافع الأصلي صحيحًا فلا يترك العمل لخاطر الرياء، ولذلك قال الفضيل بن عياض «العمل من أجل الناس شرك، وترك العمل من أجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما».
طالب في حداثة سنه يتعجل الفُتيا، ويقعد للتدريس، ويظهر التوقر، ويعز عليه أن يقول: لا أعرف، ويتقمص شخصية الكبار فيقول: عندي، والذي يظهر لي، ويغلب على ظني، والذي تطمئن إليه النفس!
ويندفع للرد على غيره، والتنبيه المفرط على أخطاء الآخرين، وكأنهم بلا صوابات، على أنه لا يتقبل نقدهم أو تخطئتهم له.
آخر يلهيه فرض الكفاية عن فرض العين، ويطيل الوقوف عند الفرعيات التي قد لا يحتاجها الناس إلا في النادر، ولا يتكلم في مسائل الإخلاص والأخلاق والبر [2]، وما ذاك إلا لأن اهتمامات العامة تدور حولها.
ثالث يفرح بالجدل وكثرة الكلام، ويتهيأ للمناظرة، ويعلن المباهلة عند أول احتكاك، وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، وغالب ما يحدث في المناظرة هو استعراض معرفي ولغوي، وسعي لإفحام الخصم وإقحامه وإظهار عجزه وتناقضه أو فساد معتقده.
حين يسمع بعض الحق من خصمه يضيق صدره، وسرعان ما يضع العراقيل أمامه لعله يتراجع، فإن رآه مصرًا قال: أنت الآن ترجع إلى قولي ومذهبي وطريقتي، وكأنه وضع سورًا على الحق لا يدخل أحد إلا بواسطته ومن طريقه، وبعد التفتيش في هويته!
وغالب المناظرة تعبر عن مصداق الخبر النبوي «الشح المطاع، والهوى المتبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه» [3].
قيل لأحد الصالحين: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟
قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق.
الولع بالغرائب والعجائب والبحث عن المهجور من الأقوال، وكأنه ينشر سننًا قد طويت، أو يحيي شرائع قد أميتت، وقد حذر أهل العلم من «الطبوليات»، وهي المسائل الشاذة الغريبة التي تضرب لها الطبول [4].
وأحيانًا على النقيض موافقة السائد، والدفاع المستميت عنه ليتبوأ منصبًا قياديًّا لدى من حوله، ولو كان هذا السائد مخالفًا للشريعة، أو قولًا ضعيفًا.
التكثر بالأتباع وحشدهم وإشاعة العصبية بينهم، وإقامة الجدران العازلة تحت ذريعة الولاء والبراء في مسائل جانبية وخلافية وفرعية.
قال الذهبي «أنت ظالم وترى أنك مظلوم، آكل للحرام وترى أنك متورع، وفاسق تعتقد أنك عدل، وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه لله!»[5].
سمع الإمام أحمد أبا داود صاحب السنن يقول: هذا شيء وضعته لله، يعني تأليف كتابه «سنن أبي داود» فقال له: أما لله فشديد، ولكن قل: شيء حبب إلي فعملته!
وفي بعض الروايات أن الإمام أحمد قال هذا عن نفسه، كما يدل عليه كلام ابن تيمية «مسألة فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه».
مراقبة الدوافع من أدق معاني الصدق.
[1] متفق عليه.
[2] انظر مختصر منهاج القاصدين.
[3] أخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: حسن غريب.
[4] حلية طالب العلم لأبي زيد.
[5] سير أعلام النبلاء.
المقال السابق
المقال التالى