الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم إخباره ببعض المغيبات:
وهذا من المعجزات التي تثبت نبوته صلى الله عليه وسلم، وهي من وحي الله له، لا من اطلاعه على الغيب، ولا أنه يعلم الغيب كما يقول المبتدعة، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا . إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26-27]، وهذا الإخبار إخبار مجمل وليس مفصلاً؛ فالغيب المطلق التام لا يعلمه إلا الله، قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65]. فليس في إخباره صلى الله عليه وسلم تفاصيل الأحداث أو تواريخها أو كيف تقع، ومن ذلك:
- نبوءته صلى الله عليه وسلم باستشهاد عمر وعثمان رضي الله عنهما.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحُداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم الجبل، فقال: «اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ»(رواه البخاري).
- ومنها: إخباره عميرَ بنَ وهب رضي الله عنه بما اتفق عليه مع صفوان بن أمية على قتله صلى الله عليه وسلم.
ذهب عمير بن وهب إلى المدينة بعد غزوة بدر ليفدي ولده الأسير لدى المسلمين في الظاهر، وفي حقيقة الأمر لقتل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما جاء بك يا عمير؟»
قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه.
قال: «فما بال السيف في عنقك؟»
قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت شيئاً!
قال: «اصدقني ما الذي جئت له؟»
قال: ما جئتُ إلا لذلك.
قال: «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك».
فقال عمير: أشهد أنك رسول الله.
- ومنها إخباره بظهور الخوارج وبعض صفاتهم.
قال صلى الله عليه وسلم: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ»(رواه مسلم).
وقال عن صفاتهم: «يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»(متفق عليه)، وقال عن سيماهم: «سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ»(رواه البخاري).
- ومنها إخباره بالفتنة التي قتل فيها عثمان، وكذلك التي ستقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، والصلح الذي سيقع على يد الحسن رضي الله عنه حيث قال: «إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»(رواه البخاري).
- ومنها إخباره بتداعي الأمم على المسلمين واتباعهم سنن أعدائهم، قال صلى الله عليه وسلم: «يوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ في قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وقال: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟»(متفق عليه).
- ومن ذلك كثير: كإخباره بموت النجاشي، وقتل علي رضي الله عنه، وقتل الحسين رضي الله عنه، وإخباره لابنته فاطمة بأنها أول
أهله لحوقاً به، وإخباره زوجاته باشتراك واحدة منهن في الفتنة، ونعيه القواد الثلاثة في غزوة مؤتة قبل مجيء الخبر إلى الصحابة، وبما سيلاقيه الصحابة يوم الفتح، وإخباره بمقتل كسرى، وإخباره بانتهاء ملكه، ودخول أهل اليمن الإسلام، وإخباره لزيد بإصابته بالعمى آخر حياته، ومقتل عمار بن ياسر، وإخباره ببعض أحداث تقع قبل قيام الساعة، وقع منها الكثير مما أخبرنا عنه أو رأيناه، وسيتحقق ما لم يقع مما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن باب التطبب:
- رد عين قتادة بن النعمان رضي الله عنه بعدما أصيبت في أحد حتى وقعت على وجنته، فردها النبي صلى الله عليه وسلم-، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما نظراً.
- ومن ذلك برء عين علي رضي الله عنه في خيبر حينما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم ليعطيه الراية، وهو أرمد، فبصق في عينيه فبرئ كأن لم يكن به وجع.
- ومن ذلك برء قدم أبي بكر رضي الله عنه حين لدغه العقرب في الغار في رحلة الهجرة، فتفل عليها النبي صلى الله عليه وسلم ودعا، فقام كأنه نشط من عقال.
- ومن ذلك برء ساق سلمة رضي الله عنه، ففي البخاري عن يزيد بن أبي عبيد قال: رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ في سَاقِ سَلَمَةَ، فَقُلْتُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ، مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ قَالَ هَذِهِ ضَرْبَةٌ أَصَابَتْنِى يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّاسُ أُصِيبَ سَلَمَةُ. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَفَثَ فِيهِ ثَلاَثَ نَفَثَاتٍ، فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةِ.
ومن ذلك إخباره بكثير من العلاجات والفوائد الطبية:
- كقوله صلى الله عليه وسلم: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِه»(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وما يسمى بالطب النبوي، ذكر ابن القيم رحمه الله وغيره كثيراً من هذه الفوائد والعلاجات المأخوذة من كلامه صلى الله عليه وسلم.
استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم:
- منها استجابة دعائه لأنس بن مالك بإكثار ماله وولده، فعن أنس رضي الله عنه قال: جَاءَتْ بي أمي أُمُّ أَنَسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أزَّرَتنِي بِنِصْفِ خِمَارِهَا ورَدَّتنِي بِنِصْفِهِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أُنَيْسٌ ابْنِى أَتَيْتُكَ بِهِ يَخْدُمُكَ فَادْعُ اللَّهَ لَهُ. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ». قَالَ أَنَسٌ: "فَوَاللَّهِ إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ"(رواه مسلم).
- ومن ذلك استجابة دعائه لابن عباس، فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير فقال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ في الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»(رواه أحمد، وصححه الألباني). فخرج من أفقه الناس وأعلمهم بالتأويل، حتى سمي "البحر" لسعة علمه، و"الحبر" و"ترجمان القرآن".
- ومن ذلك استجابة دعائه على مضر وعلى الكفار من قريش فقال: «اللّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُف»(متفق عليه)، فأمسك عنهم المطر حتى جف النبات والشجر، وماتت الماشية، وتفرقوا في البلاد لشدة الحال.
- ولما آذاه الكفار، ودعا عليهم، وسمى منهم أبا جهل، وأمية بن خلف في أناس من قريش، قال الراوي: "فلقد رأيتُ من سَمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في قليب بدر".
- ومن ذلك إجابة دعائه لأبي هريرة رضي الله عنه وأمه.
وصلى الله وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.