ب- وبُعث رسول الله بهذا الدين وحال المجتمع آنذاك كأسوأ ما يكون توزيعًا للثروة والعدالة، قلة قليلة تملك المال والتجارة، وتتعامل بالربا، فتتضاعف تجارتها ومالها، وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع، والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة، وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعًا.
.
وكان في استطاعة محمد أن تكون بداية دعوته رفع الراية الاجتماعية، وأن يثيرها حربًا على طبقة الأشراف، وأن يطلق دعوة تستهدف تعديل الأوضاع، ورد أموال الأغنياء على الفقراء.
ولو دعا يومها رسول الله هذه الدعوة لانقسم المجتمع العربي إلى جزئين- على الأرجح- الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة في وجه طغيان المال والشرف بدلًا، من أن يقف المجتمع صفًّا في وجه «لا إله إلا الله» التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس.
وربما قيل: إن محمدًا كان خليقًا بعد أن تستجيب له الكثرة وتوليه قيادها، فيغلب بها القلة، ويسلس له مقادها أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه.
ولكن الله سبحانه وتعالى -وهو العليم الحكيم- لم يوجهه هذا التوجيه، لقد كان الله سبحانه وتعالى يعلم أن هذا ليس هو الطريق، كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل يرد الأمر كله لله، ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة في التوزيع، ومن تكامل بين الجميع يستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظامًا يرضاه الله ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء، فلا تمتلئ قلوبٌ بالأطماع، ولا تمتلئ قلوب بالحقد، ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب، ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح، كما يقع في الأوضاع التي قامت على غير الله.
ج- وبُعث رسول الله والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب شتى إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية، كان التظالم فاشيًا في المجتمع، وكان الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخره، وكانت الدعارة في صور شتى من معالم هذا المجتمع.
وكان في استطاعة محمد أن تكون بداية دعوته دعوة إصلاحية، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتزكية النفوس، وتعديل القيم والموازين، وكان واجد وقتها- كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة- نفوسًا طيبة يؤذيها هذا الدنس، وتأخذها النخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير.
وربما قال قائل: إنه لو صنع رسول الله ذلك، فاستجابت له في أول الأمر جمهرة صالحة تتطهر أخلاقها وتزكو أرواحها، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها بدلًا من أن تثير دعوة «لا إله إلا الله» المعارضة القوية منذ أول الطريق، ولكن الله سبحانه وتعالى -وهو العليم الحكيم- لم يوجه رسول الله إلى مثل هذا الطريق.
لقد كان الله سبحانه وتعالى يعلم أن ليس هذا هو الطريق، كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة تضع الموازين، وتقرر القيم، وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم، وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة، وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة بلا ضابط وبلا سلطان وبلا جزاء.
فلما تقررت العقيدة بعد الجهد الشاق، وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة، لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده، لما تحرر الناس من سلطان العبيد ومن سلطان الشهوات سواء، لما تقررت في القلوب «لا إله إلا الله» صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون.
- تطهرت الأرض من الرومان والفرس، لا ليتقرر فيها سلطان العرب، ولكن يتقرر فيها سلطان الله.
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملة، وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل الله، ويزن بميزان الله، ويرفع راية العدل الاجتماعية باسم الله وحده، ويسميها راية الإسلام لا يُقرن إليها اسمًا آخر، ويكتب عليها «لا إله إلا الله».
وتطهرت النفوس والأخلاق، وزكت القلوب والأرواح؛ لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر، ولأن الطمع في رضى الله وثوابه والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات، وارتفعت البشرية في نظامها وفي أخلاقها وفي حياتها كلها إلى القمة الشاهقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط، والتي لم ترتفع إليها من بعد الإسلام إلا في ظل الإسلام، والنبي وأصحابه برهان ذلك.
مما سبق يتضح أهمية العقيدة، فالعقيدة هي الأساس، فمن صحت عقيدته في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، ومن ثم عباداته ومعاملاته -وفقًا لما جاء به الشرع- وخلصت نواياه لله عز وجل صح دينه، وقُبل عمله، ومن فسدت عقيدته- الأساس- فسد دينه وفسد عمله -وإن كان خيرًا- ولم يُقبل، ولم ينتفع به في آخرته التي يرجوها.
- ولنتأمل في العقيدة التي جاء بها محمد ، والتي كانت سببًا في رقي أهل الإسلام الذين رضوا بالإسلام دينًا، واعتنقوه وعملوا بتعاليمه، وتمسكوا بالكتاب الذي أنزل على رسوله .
- كان رسول الله يدعو إلى توحيد الألوهية والربوبية؛ يُعرف الناس بإلاههم ويدعوهم إلى عبادته سبحانه وتعالى وحده وإفراده بالعبودية جل شأنه، يعرف الناس بربهم الذي خلقهم وأوجدهم من عدم ورزقهم، وينفي وجود نِدٍّ أو شريك له.
ويدعو كل من أنكر وجوده سبحانه وتعالى إلى الإيمان بموجد هذا الكون المحكم الصنع، يدعوهم إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
- يدعو إلى محاربة عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، والتي مع ذلك كان العرب وغيرهم يعبدونها من دون الله عز وجل.
يدعو إلى محاربة كل ما يعبد من دون الله، فالعرب وغيرهم يعبدون الحجارة، والفرس يعبدون النار، واليهود اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله عز وجل، يحلون لهم ما حرم الله، ويحرمون عليهم ما أحل الله، فيتبعونهم.
والنصارى يعبدون بشرًا - المسيح- مخلوقًا يأكل ويشرب وينام، إلى غير ذلك مما يفعله البشر الذين خلقهم الله عز وجل، ومع ذلك يعبدونه من دون الله.
- يدعو إلى عبادة الله وحده، وتنزيهه سبحانه وتعالى عن أي صفة نقص نُسبت إليه من البشر، فنلحظ أن البيئة التي أحاطت بالنبي كانت تموج بافتراءات على الخالق جل وعلا، وندلل على ذلك بما يلي:
أ- فلقد افترت العرب على الله كذبًا؛ أنه اتخذ من الملائكة إناثًا، وقالت إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.