حين يقول لك نبي الله إن أعظم سورة في القرآن هي سورة الفاتحة، كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد المعلى أن النبي صلي الله علية وسلم قال قال له: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته [البخاري،4474] .
فهل هذه المنزلة لسورة الفاتحة منزلة اعتباطية؟ هل الله جل وعلا يختار أن تكون سورة الفاتحة أعظم وحي أوحاه سبحانه وتعالى طوال تاريخ النبوات هكذا دون حيثيات موضوعية أعطت هذه السورة العظيمة مرتبتها الأولوية؟ كم من الوقت منحناه لتدبر هذه السورة العظيمة والتساؤل عن مغزى هذا التعظيم الإلهي لها؟
حين يتدبر القارئ مضامين هذه السورة فإنه لا يستطيع أن يكف عن نفسه الذهول كيف تاهت التيارات الفكرية المخالفة لأهل السنة في قضايا وجزئيات ومسائل جعلوها أعظم مطالبهم، وزهدوا في مطالب أخرى جاءت هذه السورة العظيمة بتقريرها، تأمل كيف بدأت هذه السورة بثلاث آيات كلها ثناء على الله، تعظيمه جل وعلا بربوبيته للعالمين، ثم تعظيمه جل وعلا بكمال رحمته، ثم تعظيمه جل وعلا بملكه لليوم الآخر .
القارئ يحمد الله بربوبيته للعالمين، ورب العالمين يجيبه فيقول: (حمدني عبدي)، ثم يواصل القارئ فيثني على الله بكمال رحمته، ورب العالمين يقول: (أثنى علي عبدي)، فإذا بلغ القارئ الآية الثالثة فأثنى على الله بملكه لليوم الآخر قال الله: (مجدني عبدي) [صحيح مسلم،904]..
كثيراً ما أتساءل هل نحن حين نقرأ الفاتحة ونمر بهذه الآيات نستشعر أن رب الأرض والسماوات يقول لنا ذلك، إنه الله، يتحدث عنا ونحن نقرأ الفاتحة.. هل تتصور؟!
فبالله عليك تأمل في هذه الآيات الثلاث التي ذكر الله تعالى في الحديث القدسي في صحيح مسلم أنها نصف الفاتحة، حين قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)..
هذه الآيات الثلاث التي هي نصف الفاتحة، أي أنها نصف أعظم سورة في القرآن، كلها حمد لله وثناء على الله وتمجيد لله ..
بالله عليك تأمل في هذه الآيات الثلاث، ثم انتقل بذهنك وتذكر جدل المذاهب الفكرية المعاصرة حول قضية (ترتيب الأولويات) ..
سألتك بالله هل رأيت واحداً منهم يتحدث عن الثناء على الله وتوقير الله وتعظيم الله باعتباره أولوية من أولويات الإصلاح؟ بالله عليك هل رأيت أحداً منهم يتحدث عن عمارة النفوس بتمجيد الباري باعتبارها أولوية من أولويات النهضة والتقدم؟
حين أتأمل في النصف الأول من الفاتحة وأقارن دعاة أهل السنة بكلام المذاهب الفكرية يدركني الرثاء الحزين لأحوال هذه المذاهب الفكرية، كيف تحيروا في أعظم المطالب، وبعضهم فيه ذكاء واطلاع، ولكن هذه الأمور بابها التوفيق الإلهي، وكم تردت نفوس كثيرة حين تسرب إليها شيء من كبرياء الثقافة وزهو الذكاء..
فإذا تجاوزت هذه الآيات الثلاث وبلغت جوهرة السورة كلها ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.. فتقديم المعمول (إياك) على العامل (نعبد) يفيد الحصر، فلا يعبد إلا الله، والعبادة لفظ شامل، فإذا نطقت بهاته الجملة التي لا تتجاوز كلمتين ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾.. تهاوت أمام ناظريك كل المألوهات من دون الله..
تذكرت طوائف تنتسب للقبلة وتستغيث بالحسين، وهذه الآية تقول لا يستغاث بالحسين من دون الله..
تذكرت مذاهب تمنح حق التشريع للبرلمان، وهذه الآية تقول لا يملك حق التشريع إلا الله..
تذكرت من يطاوع هواه حتى كأنه إلهاً له كما قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية : 23]، وهذه الآية تقول لا يؤله إلا الله..
تذكرت من يذعن للشيطان حتى كأنه يعبده كما قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ [يس : 60] وكما قال الله عن الخليل: ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ [مريم : 44]
وهذه الآية تقول لا يذعن إلا لله..
تذكرت حالات يلتفت فيها القلب إلى ثناء الناس ومديحهم، وهذه الآية تقول لك لا يراد بالعمل إلا وجه الله..
تذكرت نيات عزبت عن الله إلى دنيا تصيبها، وهذه الآية تقول لا ينوى العمل إلا لله..
وتذكرت وتذكرت وتذكرت ..
وهذه الآية العظيمة تسقط كل مطاع أو متبوع أو مألوه إلا الله..
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾.. هي جوهر مشروع الإصلاح، وهي قاعدة النهضة، وهي مختبر الحضارة، وهي معيار التقدم، وهي خطة التنمية..
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾.. هي قلب سورة الفاتحة، قلب أعظم سورة في كتاب الله، ومع ذلك، كم تاهت عن هذه السورة، بل عن هاتين الكلمتين فقط؛ أمم من الخلق..
آية نكررها في اليوم عشرات المرات في كل ركعة من الفرائض والنوافل..
لماذا؟
لأنها "منهج حياة".
تأمل فقط في أحد تطبيقات هذه الآية كيف يحكّمها أئمة الدين في تفاصيل المسائل، يقول ابن تيمية : "والمقصود أن صاحب الزيارة الشرعية إذا قال ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾كان صادقاً؛ لأنه لم يعبد إلا الله ولم يستعن إلا به وأما صاحب الزيارة البدعية فإنه عبد غير الله واستعان بغيره، فهذا بعض ما يبين أن "الفاتحة" أم القرآن)[الفتاوى:6/264].
وأما الاستعانة في قوله :﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾فهي عبادة مشمولة بقوله : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ولكن الله أفردها بالذكر في هذا الموضع من فاتحة الكتاب ليكون تنبيهاً مستمراً يسمعه المؤمن يذكّره بأن المطلوب الأكبر وهو (العبادة) لا يكون إلا بـ(الاستعانة)، وهذا الموضع في تعقيب العبادة بالاستعانة موضع أسهب فيه أئمة التأله والسلوك وفقهاء الطريق إلى الله في تأملاتهم الإيمانية .
ثم تنتقل السورة إلى النصف الثاني الذي ذكره الله في الحديث القدسي السابق، ويبدأ بعد الثناء والتوحيد، حالة الدعاء، فإن الله قال: (هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).
حسناً ..
ما الدعاء الذي اختاره الله لنا بأن ندعو به؟
مطلوبات كثيرة، وهانحن الآن في أعظم سورة، وقد بلغنا الموضع الذي اختار الله أن يكون موضع دعاء، والله سبحانه هو الذي اختار لنا هذا الدعاء.
أتدري ما الذي اختاره الله؟
إنه (الدعاء بالهداية)..
لو قيل لشخص: ادع الله كثيراً أن يهديك، لاستغرب، وشعر أن هذا أمر ثانوي، والله تعالى يختار لنا أن يكون دعاء الفاتحة هو سؤال الهداية!
إذا كان الله سبحانه اختار أن يكون دعاء أعظم سورة في القرآن هو "سؤال الهداية" فهذا يعني أن الضلال وشيك خطير مخوف، وإلا لم يفرد الله سؤال بهذه الخصوصية، لو كان الضلال أمراً مستبعداً، أو مما يجب أن لا ننشغل بالخوف منه، أو يجب أن لا نكون سوداويين، لما كان الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين والذي يريد لنا الخير أكثر مما نريده لأنفسنا؛ يختار أن يكون دعاء الفاتحة هو طلب الهداية..
ولاحظ المقام الذي يدعو فيه المرء بالهداية؟
إنه ليس مقام معصية..
ولا مقام ضلال..
بل يلح الإنسان على الله في طلب الهداية وهو في أجل لحظات الهداية!
قائم بين يدي الله ويسأله الهداية!
فكيف بالسادر عن الله؟
فكيف بالغافل اللاهي؟
ومع ذلك يستعظم أن يسأل الله الهداية!
في المواضع العظيمة، لا يُختار من الدعاء إلا أعظمه، وأعظم الدعاء ما خاف الإنسان من ضده.. فإذا كان الله اختار لنا "تكرار طلب الهداية" في قلب أعظم سورة تكلم بها سبحانه وتعالى، دل هذا على أن ضد الهداية وهو الضلال أمرٌ أقرب إلى أحدنا من عمامته التي تحيط برأسه..
دل هذا على أننا نسير في حقل ألغام من الانحرافات ..
دل هذا على أن هذه الحياة الدنيا محفوفة بكلاليب الباطل تلتقط الناس يمنة ويسرة ..
ولذلك اختار أرحم الراحمين لنا أن نسأله الهداية في كل ركعة من صلاتنا..
إذا رأيت كيف خص الله الهداية هاهنا بطريقة تثير القلق من الضلال، فقارنها بالبرود الفكري المعاصر تجاه قضية الهداية والضلال، وتعاملنا معها بمنطق سيبيري جامد، ليس فيه خوف ووجل وحرص على الحق..
قال الإمام ابن تيمية : "وإنما فرض عليه من الدعاء الراتب الذي يتكرر بتكرر الصلوات، بل الركعات فرضها ونفلها، هو الدعاء الذي تتضمنه أم القرآن وهو قوله تعالى : ﴿اهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم﴾، لأن كل عبد فهو مضطر دائماً إلى مقصود هذا الدعاء وهو هداية الصراط المستقيم"[الفتاوى:22/399].
وما إن يتجاوز القارئ لفظ الهداية .. إلا وتبدأ أولى محطات الإشارة إلى "الصراع" ..
ذكر الله بعد ذلك مباشرة الإشارة إلى محل الهداية وهو "الصراط" وهذا يعني أنه صراط واحد، وليس متعدداً..
هل اكتفى بذلك؟ لا .. بل وصفه بأنه "مستقيم" أيضاً ..
فهو صراط لا يحتمل المنعطفات، فمن خرج عن هذا الصراط فقد خرج عن الإسلام.. ومن دخل في هذا الصراط لكن لم يراع استقامته فهو من منحرفي أهل القبلة ..
فالصراط وصف للإسلام ..
والمستقيم وصف للسير على السنة..
فالاستقامة وصف أضيق من الصراط..
حسناً.. وصف الله محل الهداية وصفاً نظرياً بأنه "صراط مستقيم" ..
هل اكتفى بهذا القدر؟ لا ..
بل زاد بأن ربطه بتجربة بشرية معروفة فقال تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾..
قارن هذا الربط بأولئك الذين يقولون طريقة الصحابة ومن تبعهم لا تلزمنا! الله تعالى يوضح لنا الصراط بأنه صراط الذين أنعم عليهم، ومن أعظم من يدخل هذا الوصف أصحاب النبي صلي الله علية وسلم، وهؤلاء يقولون طريقة الصحابة لا تلزمنا!
ثم تختتم هذه السورة برسم أسباب الافتراق الكبرى وآثارها، حيث يقع الصراط المستقيم بين طريقين، طريق المغضوب عليهم، وهم الذين حصلوا العلم وأهملوا العمل، وطريق الضالين، وهم الذين اجتهدوا في العمل بلا علم.. وأهل الصراط المستقيم جمعوا العلم والعمل..
فانظر كيف تصوغ هذه الفاتحة العظيمة حياة المسلم وهو يكررها كل يوم..