تعرض النبي صلى الله عليه وسلم منذ اللحظة الأولى لجهره بالدعوة لسيل من السباب والاتهامات التي لم تكن لتصل إليه إلا لكونه دعا الناس لعبادة الله وحده وترك الآلهة الباطلة والمعتقدات البالية، ولكن من أشد الأيام التي مرت عليه كان يوم أحد، ففيه، وبعد مخالفة بعض الصحابة لأمره فتركوا موقعهم أتت أحرج وأشد ساعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها تلك الساعة التي اجتمع فيها جيش قوامه ثلاثة آلاف رجل كلهم يبحث عنه صلى الله عليه وسلم فقط، كلهم يريد قتله، أحدهم يأتي إليه ويضربه على عاتقه ضربة سيف قوية ويقول له : "خذها وأنا ابن قمئة" ويرد عليه النبي ويدعو عليه فيقول "أقمأك الله"، فنجاه الله من أثرها القاتل بالدرعين الذين لبسهما النبي قبل المعركة لكنه ظل شهراً يشتكي من أثر وجع تلك الضربة.
ويضربه أحدهم ضربة في وجهه الشريف فتدخل حلقتان من الحديد من حلق المغفر في وجنتيه صلى الله عليه وسلم فيسيل الدم غزيراً من وجهه، وينتزع الحلقتين أبو عبيدة بن الجراح بأسنانه، فتنكسر أسنانه بسبب ذاك النزع، ويحفر الفاسق أبو عامر للمسلمين حفراً فيقع النبي في إحداها، وحينها يصبح من السهل اتخاذه هدفا للسهام، فيتقدم نحوه أبو دجانة رضي الله عنه ويتترس عليه ليجعل ظهره غرضا لسهام القوم ذبا عن رسول الله حتى يصير مثل القنفذ من كثرة ما أصيب من السهام التي قصدت النبي صلى الله عليه وسلم.
وتتكاثر جموع المشركين حوله وتتعالى صيحاتهم ليجتمعوا حول هدف واحد وهو قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فينادي رسول الله في أصحابه "من يردهم عنا وله الجنة" فكانت تلك الصيحة خالدة خلود الزمان وستظل باقية أبد الدهر حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ففي ظل الهجمات المتكررة الحاقدة والمغرضة التي يتعرض لها الرسول صلى الله عليه وسلم، من يقوم وينذر نفسه ووقته وجهده وفكره وعمله ليرد عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من يفكر في إيذائه أو يعتدي على جناب سيرته العطرة وسنته الشريفة؟
سمعها بعض من صحابته يوم أحد فيقدموا نحورهم فداء له وطمعاً في جنة الله سبحانه فيقتلون واحد تلو الآخر، فيقول أنس بن مالك: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما رهقوه قال من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضاً فقال من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه ما أنصفنا أصحابنا».
ورغم أنهم ليسوا من مشاهير الصحابة فلا يعرف أسماءهم من المسلمين إلا القليل ولم تذكر معظم كتب السير أسماءهم، إلا أن الله يعرفهم ويطلع على قلوبهم ويعلم أن حب النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ وتعمق في كل قلوب أصحابه كبيرهم وصغيرهم مشهورهم ومغمورهم.
ويسارع سعد بن أبي وقاص وأبو طلحة الأنصاري فيتباريان في أشرف حلبة للسباق وهي حلبة الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويجمع النبي الفداء لسعد بأبويه وما جمعهما لأحد قبله ولا بعده: «أرم سعد فداك أبي وأمي» ويتذكر -رغم كل ما كان يعانيه لحظتها طلب سعد- فيدعو الله له أن يكون مستجاب الدعوة فيستجيب الله دعوة نبيه.
ويهب لنجدة الرسول صلى الله عليه وسلم على الفور طلحة بن عبيد الله الذي قام ببطولة نادرة في الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم حتى شلت يده من كثرة ما قام به من أعمال، فقد روي النسائي عن جابر قصص فداء الصحابة وتحلقهم حول النبي صلى الله عليه وسلم لنجدته، فقال جابر: «فأدرك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من للقوم ؟ فقال طلحة: أنا، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار، وقتلهم واحداً بعد واحد، فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة. قال جابر: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال: حَسِّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت: بسم الله، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون، قال: ثم رد الله المشركين». (وعند الحاكم أنه -أي طلحة- جرح يوم أحد تسعاً وثلاثين أو خمساً وثلاثين، وشلت إصبعه، أي السبابة والتي تليها، ويروي البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد).
ولهذا نال طلحة بعظيم ما فعل يوم أحد هذا الوسام الذي لم ينله إلا قلة قليلة نادرة من البشر، فقد روي الترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حقه يومئذ: «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله». وعلى الرغم من وجود أبي بكر مسرعا ودفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه تخبر السيدة عائشة عن أبيها فتقول : «كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة».
ولم يقتصر حب الدفاع عن نبينا صلى الله عليه وسلم على الرجال فقط، فما كان الرجال في حب الدفاع عنه والذب عنه صلى الله عليه وسلم بأكثر من النساء المسلمات، ولكنهن لا يشهدن الحرب إلا للتمريض والسقيا، لكن أم عمارة -رضي الله عنها- وجدت أن مهمتها الأساسية العاجلة في تلك اللحظة أن تفعل كل ما بوسعها لكي تدافع عنه فأمسكت بالسيف وحاولت بقدر جهدها كامرأة، فاعترضت لابن قَمِئَة -الذي ضربه على عاتقه- في أناس من المسلمين فضربها ابن قمئة على عاتقها أيضا ضربة تركت بها جرحاً كبيرا أجوفا وتمكنت من ضرب ابن قمئة عدة ضربات بسيفها لكنه كانت عليه درعان فنجا من ضرباتها، ولم ينته اليوم حتى أصابها اثنا عشر جرحا.
وكما كان المسلمون يتعاملون مع النبي صلى الله عليه وسلم في حياتهم، كانوا يتواصون بحمايته صلى الله عليه وسلم عند موتهم، ففي نهاية يوم أحد وعند حصر الشهداء والجرحى يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سعد بن الربيع ويطلب من يأتي بخبره، فقال : «مَن رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق، قال: فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنى أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات. فقال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامي وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته. وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف! قال: ثم لم أبرح حتى مات وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره».
وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم انشغل كل محب لرسول الله بأن يرد عنه من يؤذيه من جهتين:
- الأولى: الرد عن جسده الشريف وصيانته من عبث أي عابث، فقد تعددت محاولات نبش قبره الشريف وسرقة جسده الزكي من حجرته بالمسجد النبوي، فكان منهما محاولتان للشيعة العبيديين الذين أرادوا سرقة جسده والذهاب به إلى مصر حيث احتلوها باسم الفاطميين، ولكن الله سلمه من أيديهم، وكان منهما حادثتان ومحاولتان أخريتان للنصارى لنبش قبره وسرقة جسده الشريف وسلمه الله منهما أيضا، ولعل من أشهر تلك المحاولات تلك المحاولة النصرانية الفاشلة، وهي التي قام بالدفاع عن رسول الله فيها المجاهد البطل نور الدين زنكي رحمه الله الذي امتثل للنداء النبوي "من يردهم عنا وله الجنة"، وذلك في واقعة معلومة مشهورة فأنقذ جسده الشريف ثم صب بعد ذلك طوقاً من الرصاص حول الحجرة النبوية الشريفة لمنع أية محاولة أخرى.
- والثانية: الذب عن سنته الشريفة وعن أقواله وأفعاله وهديه من أن ينتقص منها أي موتور غر لا يعلم من علم الدنيا والدين شيئا، فقد كان من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أنه تنبأ بظهور أقوام سينكرون سنته، فقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «يُوشِكُ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ عَنِّي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ».
المقال السابق
المقال التالى