ولما تولى يزيد بن معاوية الخلافة سنة (60هـ=679م) حرص على أخذ البيعة من الأمصار الإسلامية، فلبت نداءه وبايعته دون تردد، في حين استعصت عليه بلاد الحجاز حيث يعيش أبناء الصحابة الذين امتنعوا عن مبايعة يزيد، وكان في مقدمة الممتنعين الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، غير أن يزيد بن معاوية ألح في ضرورة أخذ البيعة منهما، ولو جاء الأمر قسرًا وقهرًا لا اختيارًا وطواعية، ولم يجد ابن الزبير مفرًا من مغادرة المدينة والتوجه إلى مكة، والاحتماء ببيتها العتيق، وسمى نفسه "العائذ بالبيت" وفشلت محاولات يزيد في إجباره على البيعة.
وبعد استشهاد الحسين بن علي في معركة كربلاء في العاشر من المحرم سنة (61هـ=10 من أكتوبر 680م) التف الناس حول ابن الزبير وزاد أنصاره سخطًا على يزيد بن معاوية، وحاول يزيد أن يضع حدًا لامتناع ابن الزبير عن مبايعته، فأرسل إليه جيشًا بقيادة مسلم بن عقبة، غير أنه توفي وهو في الطريق إلى مكة، فتولى قيادة الجيش "الحصين بن نمير"، وبلغ مكة في (26 من المحرم 64هـ)، وحاصر ابن الزبير أربعة وستين يومًا، دارت خلالها مناوشات لم تحسم الأمر، وفي أثناء هذا الصراع جاءت الأنباء بوفاة يزيد بن معاوية في (14 من ربيع الأول سنة 64هـ=13 إبريل 685م)، فسادت الفوضى والاضطراب في صفوف جيش يزيد.
موقف ابن الزبير مع الحصين بن نمير:
توقف القتال بين الفريقين، وعرض "الحصين بن نمير" على ابن الزبير أن يبايعه قائلاً له: إن يك هذا الرجل قد هلك –يزيد-، فأنت أحق الناس بهذا الأمر، هلم فلنبايعك، ثم اخرج معي إلى الشام، فإن الجند الذين معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان" لكن ابن الزبير رفض هذا العرض، الذي لو قبله لربما تم له الأمر دون معارضة، لأن بني أمية اضطرب أمرهم بعد موت يزيد من معاوية ورفض ابنه معاوية بن يزيد تولي الأمر، ثم لم يلبث أن توفي هو الآخر بعد أبيه مباشرة.
أعلن ابن الزبير نفسه خليفة للمسلمين عقب وفاة يزيد بن معاوية، وبويع بالخلافة في ( 7من رجب 64هـ=1 من مارس 648م)، ودخلت في طاعته ومبايعته الكوفة والبصرة ومصر، وخراسان، والشام معقل الأمويين، ولم يبق سوى الأردن على ولائه لبني أمية بزعامة حسان بن بحدل الكلبي، ولم يلق ابن الزبير تحديًا في بادئ الأمر، فهو صحابي جليل، تربى في بيت النبوة، واشتهر بالتقوى والصلاح والزهد والورع، والفصاحة والبيان والعلم والفضل، وحين تلفت المسلمون حولهم لم يجدوا خيرًا منه لتولي هذا المنصب الجليل.
موقف ابن الزبير مع مروان بن الحكم:
بدأ ابن الزبير خلافته في مكة وهي على قداستها وعظمتها لم تكن تصلح عاصمة لدولة مترامية الأطراف، وترك دمشق التي كانت تتوسط العالم الإسلامي وتمتلئ بالرجال والمال، ثم أقدم على خطوة كان فيها حتفه، حين أخرج معظم رجال بني أمية من المدينة، وكان فيهم: "مروان بن الحكم" وابنه عبد الملك، وهو ما أعطاهم الفرصة من التوجه إلى الشام، وجمع شمل الأنصار والأعوان الذين حضروا من كل مكان، وعقدوا مؤتمرًا في الجابية، وبايعوا مروان بن الحكم بالخلافة، ولو أن ابن الزبير أبقى بني أمية في المدينة تحت نظره ومراقبته، وكان في مقدوره أن يفعل ذلك، لما تحققت هذه الخطوة الأولى التي كان لها شأن في انطلاق بني أمية لإعادة الخلافة لهم والقضاء على ابن الزبير.
استهل مروان بن الحكم أمره باستعادة الشام التي كان معظم أقاليمها قد بايع ابن الزبير بعد أن نجح في هزيمة أنصار ابن الزبير، وقتل قائدهم الضحاك بن قيس في معركة مرج راهط في نهاية سنة (64هـ=683م)، ثم أعقب ذلك بالاستيلاء على مصر سنة (65هـ=684م) وولى عليها ابنه عبد العزيز، وزوده بالنصائح الهامة، وقفل راجعًا إلى الشام، ليواصل جهوده في الزحف نحو العراق.
وقبل أن نستطرد في تفاصيل الصراع بين ابن الزبير وخصومه يجدر بنا أن نذهب إلى ما ذهب إليه كبار الفقهاء من أن بيعة ابن الزبير كانت عن رضا وإجماع من المسلمين، وترتب على ذلك أن أرسل ابن الزبير ولاته على الأمصار الإسلامية، وأبدى المسلمون رضاهم عن هؤلاء الولاة، في حين لم يبايع مروان سوى نفر قليل من أهل الشام، فضلاً عن أن بيعة ابن الزبير كانت أسبق زمنًا من بيعة مروان التي جاءت متأخرة عنها، غير أن الرجلين تمسكا بالخلافة، وإن كانت الشرعية في جانب ابن الزبير، لكنها لم تكن لتحسم الأمر وحدها، بل كان للسياسية والدهاء واصطناع الرجال دور لا ينكر في حسم الصراع وهذا ما كان.
موقف ابن الزبير مع عبد الملك بن مروان:
توفي مروان بن الحكم وخلفه ابنه عبد الملك بن مروان سنة (65هـ=684م)، وكانت الشام ومصر تحت سلطانه، على حين بقيت الحجاز والعراق تحت سيطرة ابن الزبير، وفي أثناء ذلك ظهرت دعوة المختار ابن أبي عبيد الثقفي، التي اجتذبت الشيعة، وانضموا تحت لوائه، وازداد نفوذه بالعراق بعد أن هزم جيشًا أرسله عبد الملك بن مروان بقيادة عبيد الله بن زياد في معركة الخازر سنة (67هـ=686م) وبعد تلك الهزيمة توقف عبد الملك بن مروان مؤقتًا عن فكرة استعادة العراق، لعلمه أن عبد الله بن الزبير لن يترك المختار الثقفي يستبد بالعراق، وأن الصدام بينهما آتٍ لا مفر منه، فآثر الانتظار حتى يفرغ أحد الطرفين من الآخر، فيقابله وهو منهوك القوى فيضمن لنفسه الظفر والفوز، وهذا ما كان، فاصطدم مصعب بن الزبير بالمختار الثقفي وقضى على حركته سنة (67هـ=686م)، واستعاد نفوذ أخيه في العراق.
عزم عبد الملك بن مروان على استعادة العراق التابعة لدولة ابن الزبير، فخرج إليها بنفسه سنة (71هـ=690م) بعد أن اطمأن إلى تثبيت أركان دولته وتوطيد حكمه، وأعد جيشًا عظيمًا لهذا اللقاء الفاصل، وحين علم مصعب بن الزبير والي العراق بهذه التحركات استعد لمواجهة عبد الملك بن مروان، وقبل اللقاء الفاصل أخذ عبد الملك يكاتب زعماء أهل العراق ويعدهم ويمنيهم بالمال، فاستجابوا له وانضموا إليه وتخلوا عن مصعب في أدق المواقف وأصعبها، فانهزم في المعركة التي دارت بين الفريقين عند دير الجاثليق في (جمادى الآخرة 72هـ=نوفمبر 691م)، وقتل في هذا اللقاء بعد أن بذل ما يمكنه من الشجاعة والبسالة، وبعد انتهاء المعركة دخل عبد الملك الكوفة وبايعه أهلها، ودخلت العراق تحت سيطرته وعين أخاه بشرًا واليًا عليها.
كان ضياع العراق من يد عبد الله بن الزبير أكبر كارثة حلت به، في الوقت الذي قوي فيه خصمه بانضمام العراق تحت ملكه وسلطانه الذي أصبح يضم معظم أقطار العالم الإسلامي، وانحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز.
لم يضيع عبد الملك بن مروان الوقت في الانتظار بعد انتصاره على مصعب بن الزبير، فأعد حملة عسكرية في عشرين ألف جندي، بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي، ووجهها إلى الحجاز للقضاء على ابن الزبير المعتصم بمكة الذي لم يكن بمقدوره الصمود بعد أن فقد معظم دولته، ولم يبق له سوى الحجاز، ولم تكن بطبيعة الحال غنية بالمال والرجال، لكنه لم يسلم الراية، ولم يستسلم مهما كلفه الأمر، فطبيعته وخلقه يأبيان ذلك.
توجه الحجاج إلى الحجاز، ونزل الطائف، وأخذ يرسل بعض جنوده لقتال ابن الزبير، فدارت بينهما عدة اشتباكات كانت نتيجتها في صالح الحجاج، ثم تقدم إلى محاصرة عبد الله بن الزبير ونصب المنجنيق على جبل أبي قيس، فلما أهل ذو الحجة لم يستطع ابن الزبير أن يحج، وحج بالناس عبد الله بن عمر، وطلب من الحجاج أن يكف عن ضرب الكعبة بالمنجنيق؛ لأن الناس قد امتنعوا عن الطواف فامتثل الحجاج، وبعد الفراغ من طواف الفريضة عاود الحجاج الضرب، وتشدد في حصار ابن الزبير حتى تحرج موقفه، وانصرف عنه رجاله ومنهم ابناه حمزة وخبيب اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لنفسيهما.
فلما رأى عبد الله بن الزبير ذلك دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر حزينًا يشكو إليها ما هو فيه من هم وحزن، فشدت من أزره، وأوصته بالصبر والثبات وعدم التراجع ما دام على الحق، فخرج من عندها وذهب إلى القتال، فاستشهد في المعركة في (17 من جمادى الأولى 73هـ=4 من أكتوبر 692م)، وبوفاته انتهت دولته التي استمرت نحو تسع سنين.
بعض الأحاديث التي نقلها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم:
يروي عروة عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه حدثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير أسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري فقال أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر فقال الزبير والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم.
ـ وعن سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن ثابت قال سمعت ابن الزبير يخطب يقول
قال محمد صلى الله عليه وسلم من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة..ـ عن أبو نعيم حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل عن عباس بن سهل بن سعد قال سمعت ابن الزبير على المنبر بمكة في خطبته يقول يا أيها الناس إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لو أن ابن آدم أعطي واديا ملئا من ذهب أحب إليه ثانيا ولو أعطي ثانيا أحب إليه ثالثا ولا يسد جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب..
ما قيل عنه:
ـ قال عمر بن عبد العزيز يوماً لابن أبي مُلَيْكة:( صِفْ لنا عبد الله بن الزبير )000فقال:( والله، ما رأيت نفساً رُكّبت بين جَنْبين مثل نفسه، ولقد كان يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء إليه، وكان يركع أو يسجد فتقف العصافير فوق ظهره وكاهله، لا تحسبه من طول ركوعه و سجوده إلا جداراً أو ثوباً مطروح، ولقد مرَّت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي، فوالله ما أحسَّ بها ولا اهتزّ له، ولا قطع من أجلها قراءته ولا تعجل ركوعه )000 ـ وسئل عنه ابن عباس فقال على الرغم ما بينهم من خلاف:( كان قارئاً لكتاب الله، مُتَّبِعاً سنة رسوله، قانتاً لله، صائماً في الهواجر من مخافة الله، ابن حواريّ رسول الله، وأمه أسماء بنت الصديق، وخالته عائشة زوجة رسول الله، فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله )000
ـ كان عبد الله بن الزبير من العلماء المجتهدين، وما كان أحد أعلم بالمناسك منه، وقال عنه عثمان بن طلحة:( كان عبد الله بن الزبير لا يُنازَعُ في ثلاثة: شجاعة، ولا عبادة، ولا بلاغة )000وقد تكلّم عبد الله بن الزبير يوماً والزبير يسمع فقال له:( أي بُنيّ! ما زلتُ تكلّم بكلام أبي بكر -رضي الله عنه-حتى ظننتُ أنّ أبا بكر قائمٌ، فانظُر إلى منْ تزوّج فإنّ المرأة من أخيها من أبيها )000 وأول من كسا الكعبة بالديباج هو عبد الله بن الزبير، وإن كان ليُطيِّبُها حتى يجد ريحها مَنْ دخل الحرم000 ـ قال عمر بن قيس:( كان لابن الزبير مئة غلام، يتكلّم كلّ غلام منهم بلغة أخرى، وكان الزبير يكلّم كلَّ واحد منهم بلغته، وكنت إذا نظرتُ إليه في أمر دنياه قلت: هذا رجلٌ لم يُرِد الله طرفةَ عين، وإذا نظرتُ إليه في أمر آخرته قلت: هذا رجلٌ لم يُرِد الدنيا طرفة عين )000
ـ وفي البخاري، عن ابن عباس أنه وصف ابن الزبير، فقال: عفيف الإسلام، قارئ القرآن، أبوه حواري رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأمه بنت الصديق وجدته صفية عمة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وعمة أبيه خديجة بنت خويلد وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا الزنجي بن خالد، عن عمرو بن دينار قال: ما رأيت مصليا أحسن صلاة من ابن الزبير.
ـ أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق قال: ما رأيت أحدا أعظم سجدة بين عينيه من ابن الزبير.
ـ قال مصعب بن عبد الله وغيره: كان يقال لابن الزبير: عائذ بيت الله. |