أيامكم هذه أعظم الأيام فضلاً وأكثرها أجرًا، تصفو فيها لذيذ المناجاة، وتسكب فيها غزير العبرات، كم لله فيها من عتيق من النار! وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته! المغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حرم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتته فرَص الشهر وفرط في فضل العشر وخاب رجاؤه في ليلة القدر.
معاشر المسلمين، ينادي ربكم يوم القيامة: «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» [رواه مسلم].
هذا هو شهركم وهذه نهاياته، كم من مستقبلٍ له لم يستكملهُ، وكم من مؤمل بعود إليه لم يدركهُ، أيها الإخوة، هل عرفتم معنى العشر الأواخر؟! إنها خاتمة الشهر، وقد أخبر نبيكم وحبيبكم صلى الله عليه وسلم بأن الأعمال بالخواتيم، وذلك فيما أخرجه الإمام البخاري حيث قال: «وإنما الأعمال بالخواتيم» [رواه البخاري].
فعجبًا لقوم من بني الإيمان اجتهدوا في أول الشهر ثم لما اقتربت نهاية الشهر وخاتمته شغلوا بملابس العيد وبحلوى العيد وببرنامج العيد، فما لهم نسوا أن الأعمال بخواتيمها؟ وهل زهدوا في ليلة القدر تلك الليلة المباركة العظيمة التي يقول الله فيها:
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]. ويقول سبحانه: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، أي: في هذا الليلة يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة مقادير العام وما يحدث فيه، وما يكون فيه من الآجال والأرزاق والأحداث، ليلة واحدة تقومها لله تكون خيرًا لك من عمرك كله، خير لك من ثلاثة وثمانين عامًا وربع العام، فأنت قد لا تعمر حتى تصل الثمانين، وإن وصلت فهل ستنفق عمرك كله في العبادة؟
ولو قيل لأحدنا في عمله: لو عملت شهرًا كاملاً متواصلاً سوف تعطى رواتب ثلاث وثمانين عامًا، ألا ينظر إليها بأنها صفقة رابحة؟! ألا يحاول أن يكيف ظروفه ووضعه وحياته ليتفرغ لأداء عمل ذلك الشهر ليحصل على المقابل؟! والمقابل هنا لا يتطلب جهدًا كبيرًا، فربكم لم يطلب منكم إلا عشر ليالي فقط، ويضمن العبد بذلك أنه قام ليلة القدر، وأنه قد حصل بإذن الله على أجر يزيد على عبادة ثلاث وثمانين عامًا، أفلستم معي بأنها صفقة رابحة من الكريم سبحانه؟! وليس هذا فقط ولكن استمعوا معي إلى ما أخبركم به نبيكم وحبيبكم صلى الله عليه وسلم بقوله: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» [رواه البخاري].
الله أكبر، ليلة واحدة تقومها يغفر لك ما فعلت من ذنوب وخطايا طوال عمرك الذي مضى، فأين أصحاب القلوب الحية الذين استشعروا كثرة ذنوبهم وعظيم خطاياهم من هذا العرض الرباني السخي؟! وما أشد غبن من فرط في ترصد هذه الليلة وقيامها. إن هذا الأجر العظيم لا يلزمه أن يعرف المرء أي ليلة هي ليلة القدر، فمن قام ليالي العشر كاملة فهو بالتأكيد قد قام ليلة القدر، ويحصل أجر القيام لمن قام مع الإمام حتى ينصرف، لحديث أبي ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة» [رواه الترمذي].
أيها المسلمون
وفي الليل سواء في رمضان أو غيره ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى شيئًا من أمور الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وهو وقت النزول الإلهي، ومنه الثلث الأخير من الليل، يقول الله تعالى: "هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له"، فأين أنت، يا عبد الله، عن هذا المورد العظيم، وإذا غلبَتك نفسك في سائر العام، أفلا تغلِبها على الأقل في هذه الليالي والأيام؟!
أيها المسلمون
أيام عشر رمضان المباركة حصلت فيها أول انطلاقة للإسلام وأول إشعاع لنوره الوضّاء، عشر رمضان التي نزلت فيها الهداية الربانية، وأخذ العالم العلوي فيها يتصل بالعالم الأرضي، عشر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، عشر شرفت بليلة القدر العظمى التي شهد لها الحق سبحانه بأنها خير من ألف شهر، وبأنها مباركة ويفرق فيها كل أمر حكيم، وتنزل فيها مواكب الملائكة الكرام إلى الأرض، يحف بهم السلام، يتنزل فيها أشرف الملائكة الروح الأمين وسفير الله بينه وبين سائر المرسلين جبريل عليه الصلاة والسلام، يتنزلون فيها لكثرة ما ينزل الله فيها على عباده من البركة والرحمة والعفو والرضا والغفران، ولتزين المؤمنين فيها بألوان الطاعات وكثرة القربات، ينزلون فيها ليحفوا بالمصلين ويسلموا على المؤمنين ويشهدوا للطائعين.
فيا أيها المسلمون الراجون عفو الله ومغفرته ورضاه، تعرضوا لذلك بفعل أسبابه، واتقوا الله وأروه تعالى من نفوسكم خيرا، أروه تعالى رجوعًا صادقًا إليه، وقلوبًا خاشعة له منكسرة بين يديه، وعيونا محشرجة بالدموع خوفًا من عقابه ورغبة في ثوابه، وألسنة تالية لكتابه مسبحة لجلاله، أروه دومًا خيرًا بالإخلاص له في الأعمال والصدق في الأقوال، بتعظيم شعائره واحترام مقدساته الزمانية والمكانية، وتعرضوا بأعمالكم الطيبة وعزمكم الصادق على الرشد لنفحات بره وقدسه، فإن له تعالى في هذه الأيام نفحات، إنها أيام وليالي إعتاق الرقاب وقبول المتاب، إنها أيام وليالي مضاعفة الحسنات ورفعة الدرجات، فيها تُفتَح الأبوابُ ويسمَع الخطاب، يصِل فيهَا الرّبّ ويقطَع، يعطي ويمنَع، يخفِض ويرفَع، تقول عائشة رضي الله عنها: قلتُ: "يا رسولَ الله، أرأيتَ إن عَلِمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةَ القدر ما أقول؟"، قال: «قولي: اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحبّ العفو فاعف عنّي» [رواه الترمذي] [4]. في كلِّ ليلةٍ ساعةُ إجابةٍ، الأبوابُ فيها تفتَّح، والكَريم فيها يمنَح، فسَل فيها ما شِئتَ، فخزائِن الله ملأَى، والمعطِي كريم، وأيقِن بالإجابةِ فالربُّ قديرٌ، وبُثَّ إليه شكواك فإنّه الرّحيم، يقول النبيّ: «إنَّ في اللّيلِ ساعةً لا يوافِقُها رجلٌ مسلِم يسأَل الله خيرًا مِن أمرِ الدّنيَا والآخرَةِ إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلَّ ليلةٍ» [رواه مسلم] [7]. ونَسَماتُ آخِرِ اللّيل مظِنّة إجابَةِ الدّعوات، قيل للنّبيّ: "أيّ الدّعاءِ أسمع؟"، قال: «جوفُ اللّيل الآخر ودبُر الصلوات المكتوبة» [رواه الترمذي] [8].
أيها المسلمون
أيامكم هذه أعظم الأيام فضلاً وأكثرها أجرًا، تصفو فيها لذيذ المناجاة، وتسكب فيها غزير العبرات، كم لله فيها من عتيق من النار! وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته! المغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حرم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتته فرَص الشهر وفرط في فضل العشر وخاب رجاؤه في ليلة القدر، مغبون من لم يرفع يديه بدعوة، ولم تذرف عينه بدمعة، ولم يخشع قلبه لله لحظة، ويحه ثم ويحه أدرك الشهر! ألم يُحْظَ بمغفرة؟! ألم ينل رحمة؟! يا بؤسه! ألم تُقَلْ له عثرة؟! ساءت خليقته وأحاطت به خطيئته، قطع شهره في البطالة وكأنه لم يبق للصلاح عنده موضع، ولا لحبّ الخير في قلبه مَنْزَع. طال رقاده حين قام الناس، هذا والله غاية الإفلاس، عصى رب العالمين واتبع غير سبيل المؤمنين.