المبحث الأول: الاستعداد النفسيّ لقبول فكرة "حَقْنِ الدِّمَاء"
كان محمد دائمًا يعمل على حقن الدماء[1]
بحلول شهر أكتوبر من سنة 1944م استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها تحقيق التفوق البري والبحري والجوي على دول المحور وخاصة اليابان وألمانيا، وبدا أن الحرب العالمية الثانية أوشكت على الانتهاء، وفي مارس 1945م ألحقت الغارات الجوية الأمريكية باليابان خسائر مروعة وفي مدن هامة مثل طوكيو وأوزاكا ويوكوهاما، ثم أصبح موقف اليابانيين حرجًا للغاية بعد أن استسلمت ألمانيا في مايو 1945م، وبات أمر استسلام اليابان مسألة وقت، بل لقد لمحت اليابان بالفعل عن هذه الرغبة عن طريق روسيا، ومع ذلك قامت الولايات المتحدة بفعلتها الشنعاء وألقت القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما اليابانية، ثم أتبعتها وبعد ثلاثة أيام فقط بالقنبلة الأخرى على مدينة ناجازاكي، وتم سحق اليابان[2]!!
هذا حالهم ولكن الإسلام شئ آخر!!
إنَّ الجيوشَ المنتصرة غالبًا ما ترفضُ أيّ اقتراحاتٍ تُشِيرُ إلى وقفِ القتالِ، أو عَدَمِ الإسْرَافِ في سَفْكِ الدماء؛ ذلك لأنها تعتبر تقدمها فرصة سانحة لإجهاض أي محاولة لقيام عدوها من جديد. ومن ثَمَّ أصبحَ مُتَعَارَفًا بين الناس أنّ الضعيف فقط هو الذي يطلب السلامَ، وأنّه ما دَامَ بالجيش قوة فَلابُدّ أنْ يُكْمِلَ المسيرةَ، ولا يُنْظَرُ هُنَا إلى الأرواحِ التي تُزْهَقُ، ولا إلى الخَرَابِ الذي ينتشر، فالهدفُ هو إِقْصَاءُ العدوّ تمامًا، ليس فقط عن ساحة القتال، ولكن عن الحياة بكاملها!
غير أن هذه النظرة ليست عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْمَرَّة!
إِنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان ينظرُ للحربِ على أنها ضرورة اضطراريّة لا يُريدها ولكن دُفع إليها دفعًا، ويَنظر إلى عدوّه الذي يقاتله على أنّه رجلٌ جَهِلَ الإسلامَ فحاربه، ولو عَرَفَهُ لدخل فيه، وَلَدَافَعَ عنه؛ ولذلك نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم - في حروبه - حريصًا على انتهازِ الفُرَصِ لِحَقْنِ دماء عَدُوِّهِ، ومُسْتَعِدٌّ لذلك استعدادًا كاملاً، مما أنتج لنا سجلاً حافلاً بالمواقف التي يراها عُمُومُ الناس عجيبة، ولو دَرَسُوا الإسلام لَعَرَفُوا أنها ليست إلا بنود هذا الشرع الرحيم.
ومن ذلك مثلاً أنَّ مَن دخل في الإسلام - ولو أثناء الحرب - لا يجوز قتله، حتى لو كان دخوله الإسلام مشكوكًا فيه؛ فها هو صلى الله عليه وسلم يُنْكِرُ على أسامة بن زيد {قَتْلَهُ لرجلٍ[3] أثناء الحرب بعد أن قال: لا إله إلا الله، ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْثًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ[4]، وَإِنَّهُمْ الْتَقَوْا فَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ وَإِنَّ رَجُلًامِنْ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ قَالَ– أي الراوي -: وَكُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِالسَّيْفَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَتَلَهُ فَجَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُفَأَخْبَرَهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ كَيْفَ صَنَعَ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْجَعَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَتَلَ فُلَانًا وَفُلَانًا وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا وَإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَقَتَلْتَهُ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟! قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي قَالَ: وَكَيْفَ تَصْنَعُبِلَا إِلَهَ إِلَّااللَّهُ؟إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ: فَجَعَلَ لَا يَزِيدُهُعَلَى أَنْ يَقُولَ كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ إِذَا جَاءَتْيَوْمَ الْقِيَامَة[5].
فهذا موقف يُجَسِّدُ ما ذكرناه من قبل توضيحًا لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحاربين له. فهذا الرجل الذي قَتَلَهُ أسامة بن زيد {لم يكن رجلاً عاديًّا من عُموم الكفّار، ولكنَّه كان رجلاً شديدًا أوجع في المسلمين، وقَتَلَ منهم نَفَرًا كبيرًا، ثم إنّ أسامة بن زيد {تمكَّن منه، ورفع السيف عليه ليقتله، فقال الرجل: لا إله إلا الله! إن أيَّ مُحَلِّلٍ للحدث، وأيَّ مراقب له لن يقول إلا ما قاله أسامة، إن الرجل لم يَقُلْ لا إله إلا الله إلا تَعَوُّذًا من القتل، وإلا فما الذي دَفَعَ الإسلام في قلبه في هذه اللحظة بالذّات؟! لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له رؤية مختلفة. لقد كان يريد أنْ يَحْقِنَ دمه، ويعفو عنه، فلعلّ الاحتمال البعيد جدًّا - وهو أنه قد أسلم فعلاً عن قَنَاعَةٍ - قد حَدَثَ بالفعل، أو لعلّه عندما يدخل الإسلام يراه من الداخل فَيُؤْمِنُ به صادقًا، أو لعلّه يتأثّر بعفو أسامة عنه فَيُفَكِّرُ في الدين الذي غَرَسَ فيه ذلك العفو. إنّ هذه الطريقة في التفكير لا تخطر - بحالٍ من الأحوالِ - على ذهن زعيمٍ من زعماءِ الدنيا، ولن تكون أبدًا إلا من رجلٍ جَعَلَ همَّه الأول والأخير هو اسْتِنْقَاذ البشريّة من الكفر إلى الإيمان، ومن الجنّة إلى النّار، وهذه رحمةٌ فَاقَتْ كلّ تَصَوُّرٍ، وتعدَّت كلّ خيال!
ولم يَكُنِ الإسلامُ شَرْطًا لقبول فكرة إنهاء الحرب، بل كان صلى الله عليه وسلم يتعلّق بأيّ بادرةٍ تشير إلى رغبة العدوّ في حَقْنِ الدّماء، حتى ولو كان العدو في حالة واضحة من الضعف، ولا يطلب وقف القتال إلا لإنقاذ نفسه من الموت!
مثال ذلك ما حدث في غزوة خَيْبَر.. فبعد أنْ ظَهَرَتْ بَشَائِرُ النصرِ للمسلمين، أَعْلَنَ العدو اليهوديّ عن قَبُولِهِ للصّلح مع الرسول صلى الله عليه وسلم ! فماذا كان رَدُّ فِعْلِ رسول الرّحمة صلى الله عليه وسلم ؟!
يقول ابن كثير: "فلمّا أيقنوا بالْهَلَكَةِ، وقد حَصَرَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعةَ عشرَ يومًا نزل إليه ابن أبي الحقيق؛ فَصَالَحَهُ على حَقْنِ دمائهم، ويُسَيِّرُهم، ويُخَلُّون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من الأرض والأموال والصّفراء والبيضاء والكِرَاع والحلقة، إلا ما كان على ظهر إنسان، يعني: لباسهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ إِنْ كَتَمْتُمْ شَيْئًا، قالوا: نعم. فَصَالَحُوهُ على ذلك"[6].
فبرغم كل التاريخ الأسود مع اليهود عامّة، ويهود خيبر بصفة خاصّة، وبرغم حِرْصِهِمْ على تجميع الأحزاب لإبادة المسلمين قبل أقلّ من سنتين من هذه المعركة، إلا أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ بِصُلْحِهِمْ، ويحقن دماءهم.
وفي غزوة بني المصطلق، ورغم انتصار المسلمين، وأَسْرِهِمْ مئة بيتٍ من بني المصطلق، إلا أنّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم حَقَنَ دماءهم، ولم يفعل كقادة الجيوش وَقْتَهَا أو الآن؛ فيقتلهم جميعًا، لِيَأْمَنَ شرَّهم إلى الأَبَدِ، بل زاد الرسولُ صلى الله عليه وسلم على الإبقاء على حياتهم أن أَعْتَقَ جُوَيْرِيَة بنت الحارث، وهي ابنة سيد بني المصطلق، وتَزَوَّجَهَا؛ وذلك ليُحفِّز المسلمين على إعتاق أسرى بني المصطلق رَحْمَةً بهم، فقال المسلمون: أَصْهَارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأطلقوا سراحَ جميع ما بأيديهم من السَّبْي!.
إنّ هذا التاريخ ليس تاريخَ ملائكة!
وإنَّما هو تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتاريخ قوم آمنوا بالإسلام، وطَبَّقُوه في حياتهم.
ولعلّ أكثر من كلّ ما سبق هذا المظهر العجيب من مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم ، وهو أنّه كان يحرص على تحيُّن الفُرَصِ لحفظ دماء بعض الذين يُقاتلونه، مع أنَّهم ما زالوا مُستمرّين في قتاله!
من ذلك ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر حيث نهى عن قتل من خَرَجَ مُسْتَكْرَهًا مِنَ المشركين، رغم أنّ ذلك في ميدان القتال والحرب، والمتعارَف عليه بين جميع البشر أنَّ من يقاتلك تقاتله، ولكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بروح القاعدة وليس بنصها؛ لذا فهو قد يَأْسِرُ المستَكرَه لكي يتجنّب مُقاتلته ويُجَنِّبَه أيضًا، ولكن لا يقتله؛ إلا إذا أَصَرَّ على القتال؛ فقد روى ابن إسحاق ~عن ابن عبّاس {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه قٌبَيلَ غزوة بدر: "إني قد عرفت أنَّ رجالاً من بنى هاشم وغيرهم قدْ أُخرِجوا كُرْهًا لا حاجة لهم بقتالنا؛ فمن لقي منكم أحدًا من بنى هاشم فلا يقتُلْه، ومن لَقِيَ أبا البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لَقِيَ العبَّاس بن عبد المطلب فلا يقتله؛ فإنما خرج مُسْتَكْرَهًا"[7]. فهل في الدنيا مثيل لذلك؟!
---------------------------------
[1]هيدلي (لورد إنجليزي اعتنق الإسلام سنة 1914م، وكتب مذكراته في كتاب: رجل غربي يصحو فيعتنق الإسلام)
[2]هـ .أ.ل.فيشر:تاريخ أوربا في العصر الحديث،710-712.
[3] قيل هو: نَهيك بن مرداس.
[4] تذكر الروايات أن ذلك كان في سرية غالب بن عبد الله الليثي في رمضان سنة 7هـ، إلى بني عُوَال، وبني عبد ابن ثعلبة بالمَيفعة، وقيل: إلى الحُرَقَات من جهينة، في مائة وثلاثين رجلاً..انظر: عيون الأثر: 2/ 156.
[5]مسلم: كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله (97).
[6]ابن كثير: السيرة النبوية 3/376.
[7]ابن هشام: السيرة النبوية 1/628، وانظر أيضًا: ابن كثير: السيرة النبوية 2/436.