المبحث الخامس: رحمته صلى الله عليه وسلم بالخدم والرقيق
كان محمد حسن الشمائل ، كثير التواضع[1]
قدرت منظمة العمل الدولية عدد من يتجر بهم سنويًا من البشر بحوالي 1.2 مليون إنسان، وتعد تجارة الرقيق ثالث أكبر تجارة غير مشروعة تدر ربحاً في العالم بعد تجارة الأسلحة وتجارة المخدرات، حيث تدر سنويًا ما بين 7 مليار إلى 12 مليار من الدولارات الأمريكية[2].
في هذا المبحث نلحظ لونًا آخر مهمًا من ألوان رحمته صلى الله عليه وسلم ، وهو رحمته صلى الله عليه وسلم بضعفٍ ظاهرٍ، وهو ضعف الخدم والرقيق..
لقد بلغت كلمات وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد شأنًا غير مُتخيَّل عند عامَّة الناس، فقد بلغت رحمته درجة ما عرفها العالم في تاريخه ولا واقعه، ويقينًا لن يكون لها مَثيلٌ في المستقبل..
وإن شئتم أن تدركوا عظمته الحقيقية في هذا المضمار فراجعوا ما ذكرناه في الباب الأول عن البيئة التي نشأ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظرة العالم آنذاك للخدم والعبيد، واقرءوا أيضًا ما سنذكره - إن شاء الله - في آخر البحث عن بعض مواقف المدنية الحديثة، والحضارة المعاصرة في معاملاتها مع هذه الطائفة التي تُوصَف بالتعاسة في معظم أحوالها..
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمةً تفسر نظرته الرحيمة إلى الخدم والعبيد، وواللهِ إنها لكلمة عجيبة!
قال صلى الله عليه وسلم : "إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ[3]، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ "[4].
إن هذه الكلمة ـ والله ـ لشيء مذهل!!
هذه هي رحمته صلى الله عليه وسلم !!
"إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ"
إنه يرتفع في كلمة واحدة بدرجة الخادم إلى درجة الأخ! ولتكن المعاملة بعد ذلك كمعاملة الأخ، سواء في الطعام أو اللباس أو الحوار أو أي شيء آخر..
إن الله عز وجل قد رفع أقوامًا فوق آخرين، وليس هذا الرفع تكريمًا لبعضٍ وانتقاصًا من آخرين، إنما هي فتنة وابتلاء للجميع.. إن السيِّد لم يختر أن يُولَدَ سيدًا، والخادم لم يختر أن يولد خادمًا، ولذلك فليس هناك معنى لتكبر السيد على خادمه، إنما هو في الحقيقة أخوه، وكان من الممكن أن تنقلب الآية، فيصبح السيد خادمًا، ويصبح الخادم سيدًا.. وكما تريد أن يعاملك الناس فعامِلْ أنت الناس..
"إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ"..
ثم يكرر المعنى لئلا يظن أحدٌ أن هذه مبالغة فيقول: "فمن كان أخوه تحت يده"، ثم يضع الضوابط في المعاملة التي تليق بالأخوة..
فليطعمه مما يأكل..
وليلبسه مما يلبس..
ولا تكلفوهم ما يغلبهم..
فإن كلفتموهم فأعينوهم!!
أما آنَ للعالم أن يعلم هذا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم ؟!
إنني أعلم أنه يكفيني ما ذكرت حتى يعلم العالَمُ رحمة رسولنا صلى الله عليه وسلم مع الخدم والعبيد، لكنني لزيادة المعنى إيضاحًا ولترسخيه، أسوق مجموعة أخرى من أقواله صلى الله عليه وسلم ..
ويقول صلى الله عليه وسلم : "مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ"[5].
وفي موقف يثبت أن هذا الكلام كلامٌ واقعي له تطبيق في حياة الناس يروي أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه فيقول: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ فَقَالَ: أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ"[6].
فترسخ إذًا في قلب أبي مسعود رضي الله عنه أن الجرم كبير، وأن الخروج الوحيد من المأزق هو أن يعتق هذا العبد له، ففعل ذلك، فأكدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود أن هذا كان هو الحل الوحيد لإخراجه من الأزمة التي أوقع نفسه فيها..
وقد تكرَّر مثل هذا الموقف مع عبد الله بن عمر، وكان قد ضرب غلامًا له، فدعاه فرأى بظهره أثرًا، فقال له: "أوجعتُك، قال: لا، قال: فأنت عتيق قَالَ ثُمَّ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ فَقَالَ مَا لِي فِيهِ مِنْ الْأَجْرِ مَا يَزِنُ هَذَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:مَنْ ضَرَبَ غُلَامًا لَهُ حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ، أَوْ لَطَمَهُ؛ فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يُعْتِقَه"[7].
لقد كان أمرًا حقيقيًا إذن، فَقِهَه الصحابة، وأدركوه، وسعوا إلى تطبيقه بكل حذافيره.. لقد انتقلت الرحمة بصورة تلقائية من قلبه صلى الله عليه وسلم إلى قلوب أصحابه، فطبَّقوا على ظهر الأرض قوانين السماء، ورأينا منهم ما يذهل عن تدبره العقل!
ها هو أبو ذر >يُلبِس غلامه حُلَّة مثل حُلَّته تمامًا!![8]
ها هو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يجلس وسط غلمانه فلا يميزه أحدٌ من الناس عنهم لتشابه هيئتهم جميعًا!![9]
وها هو عثمان بن عفان رضي الله عنه كذلك[10]
لقد علَّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة مع الخدم والرقيق حتى في الألفاظ والتعبيرات..
يقول صلى الله عليه وسلم : "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي، كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي"[11].
نَعَم!!
إلى هذه الدرجة بلغت رحمة ورقَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولم تكن هذه فترة معينة في حياته، أو عند ظروف مخصوصة، إنما ظل كذلك حتى لحظات موته الأخيرة.. وكان من آخر وصاياه للمسلمين: "الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ"[12].
ويقول عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه : "كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ "[13]
وكانت حياته صلى الله عليه وسلم تطبيقًا حرفيًا لكل كلماته.. حاشاه أن يقول شيئًا ويفعل غيره..
تقول عائشة رضي الله عنها : "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"[14].
ويشهد أنس بن مالك رضي الله عنه شهادة حق وصدق فيقول: " كَانَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ وَفِي نَفْسِي - أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - قَالَ فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَابِضٌ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي؛ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَضْحَكُفَقَالَ: "يَا أُنَيْسُ اذْهَبْ حَيْثُ أَمَرْتُكَ" قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ مَا عَلِمْتُ قَالَ: لِشَيْءٍ صَنَعْتُ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُ هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا"[15].
هذا طرف من رحمته بالخدم والرقيق، والإحاطة بها مستحيلة، وصدق الذي قال: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"[16].
--------------------------------------
[1]دون بايرون(باحث أرجنتيني): أتح لنفسك فرصة، ترجمة عبد المنعم الزيادي ـ مكتبة الخانجي 1995
[2]تقرير حالة السكان في العالم 2006م، الفصل الثالث، الرابط الإلكتروني
http://www.unfpa.o صلى الله عليه وسلم g/swp/2006/a صلى الله عليه وسلم abic/chapte صلى الله عليه وسلم _3/index.html
[3]خولكم: خدمكم.
[4]البخاري: كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (30)، ومسلم: كتاب الأيمان والنذور، باب إطعام المملوك مما يأكل (1661).
[5]مسلم: كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده (1657)، وأبو داود (5168).
[6]مسلم: كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده (1659)، وأبو داود (5159)، والترمذي (1948)، وأحمد (22404)، والبخاري في الأدب المفرد (171)، والطبراني في الكبير (683)، وعبد الرزاق (17933).
[7]مسلم: كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده (1657)، وابن حبان (7016).
[8]البخاري: العتق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : (العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون)، ومسلم: كتاب الأيمان والنذور، باب إطعام المملوك مما يأكل (1661).
[9]أبو الفرج الجوزي: صفة الصفوة 1/355.
[10]المرجع السابق 1/303.
[11]البخاري: كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله: عبدي وأَمَتي (2414)، ومسلم: كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب حكم إطلاق لفظ العبد والأَمَة (2249).
[12]ابن ماجة (1625)، وأحمد (26726)، وقال الشيخ الألباني: (صحيح) السلسلة الصحيحة (868).
[13]أبو داود (5156)، وأحمد (585)، وقال الشيخ الألباني: (صحيح) انظر حديث (4616) في صحيح الجامع.
[14]مسلم: كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حُرُمَاته (2328).
[15]مسلم: كتاب الفضائل، باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا (2310)، وأبو داود (4773).
[16](الأنبياء: 107).