بيان الأدلة على تعيُّن قتل الساب وعدم صلاح أية عقوبة أُخرى معه:
لقد تبين مما تقدم أمران ؛ أحدهما أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم كافرٌ لا إيمان له ولا أمان بغض النظر عن حاله قبل وقوع السب مسلماً كان أم ذمياً أم مستأمناً أم حربياً، فقد صار حاله بعد السب حالاً واحداً وهو الكفر وانتقاض الأمن والإيمان، وثانيهما إهدار دمه عقوبةً له على هذه الجريمة. ولما كان حكم الإمام المسلم في الكافر التخيير بين القتل والاسترقاق والمن والفداء، كما كان حال المرتد المبدِّل لدينه المفارق للجماعة الاستتابة قبل القتل كان من المهم بيان عدم تناول هذه الخيارات للساب وذلك لعظم جريمته كما تقدم. ونبين هنا أن القتل هو العقوبة الوحيدة المناسبة والمتعينة على ساب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم نتكلم في المطلب الثالث عن حكم استتابة وتوبة الساب بإذن الله .
ولقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على مسألة تعيُّن قتل الذمي الساب فأجاد وأفاد رحمه الله، ونحن لن نفصل كثيراً في دقائق أحكام أهل الذمة وتعدد أقوال الفقهاء فيهم فإن ذلك مبسوط في مظانه، ولكن نتكلم إن شاء الله على الأدلة التي تحتم قتل الساب وعدم مناسبة غيره من العقوبات كالجلد أو الاسترقاق وعدم جواز غير ذلك من التصرفات الجائزة للإمام المسلم مع الأسرى الكفار غير السابين والشاتمين للنبي صلى الله عليه وسلم كالمن والفداء، وأنبه هنا على أن الخلاف بين الفقهاء خلاف متأخر عن عصر الصحابة كما قدمنا في مبحث الإجماع، كما أنه خلاف حول تحتم القتل لا حول جواز القتل فلينتبه إلى هذا الفارق حتى لا يظن ظان أن ثمة خلاف في جواز قتل الساب وإهدار دمه كما تقدم من أدلة القرآن والسنة.
أدلة تحتم قتل الساب وتعيُّن هذه العقوبة:
إن كل ما نذكره في هذا الموضع من الأدلة أو من وجوه الاستدلال على المطلوب فهو بالإضافة إلى الأدلة المتقدمة في المطلب الأول، حيث إن الأدلة المتقدمة كلها تفيد الدلالة على المطلوب لمن تأملها جيداً، ونزيدها بما يلي :
1.قول الله تعالى:" قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويُخزِهم وينصُركم عليهم ويَشفِ صدورَ قومٍ مؤمنين. ويُذهب غَيظَ قلوبهم"، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الآية فقال:"والتعذيب بأيدينا هو القتل، فيكون الناكث الطاعن مستحقاً للقتل، والسابُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناكثٌ طاعنٌ كما تقدم فيستحق القتل. ولقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح دم الذين باشروا هجاءه ولم يُهدر دم الذين سمعوا الهجاء، وهذا يدل على أن موجب هدر الدم أمر زائد على مجرد الكفر وهو هنا سب الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى (ويشف صدور قومٍ مؤمنين. ويُذهب غيظ قلوبهم) دليلٌ على أن شفاء الصدور من ألم النكث والطعن، وذهاب الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من أثر الطعن أمرٌ مقصودٌ للشارع مطلوب الحصول، ولا ريب أن من أظهر سب الرسول صلى الله عليه وسلم مِن أهل الذمة وشتمه فإنه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثر مما لو سفك دماءَ بعضهم وأخذ أموالهم، فإن هذا يثير الغضب لله والحمية له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا القدر لا يهيج في قلب المؤمن غيظاً أعظم منه، فالمؤمن المسدَد لايغضب هذا الغضب إلا لله، والشارع يطلب شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم، وهذا إنما يحصل بقتل الساب لأوجه (أحدها) أن مجرد تعزيره وتأديبه بغير القتل يُذهب غيظ قلوبهم إذا شتم واحداً من المسلمين أو فعل نحو ذلك، فلو أذهب غيظ قلوبهم في حال شتم الرسول صلى الله عليه وسلم لكان غيظهم من شتمه مثل غيظهم من شتم واحد منهم وهذا باطل، فلا بد أن تكون عقوبة ساب الرسول صلى الله عليه وسلم فوق التعزير وهذه العقوبة هي القتل، و(الثاني) أن شتمه أعظم عندهم من أن يُؤخذ بعض دمائهم، ثم لو قتل الذمي واحداً منهم لم يشف صدورهم إلا قتله، فأن لا تشفى صدورهم إلا بقتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى، وإلا لم يكن سب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد علينا من قتل بعضنا، و(الثالث) أن الله تعالى جعل قتالهم هو السبب في حصول الشفاء، والأصل عدمُ سببٍ آخر يحصله، فيجب أن يكون القتل والقتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا، و(الرابع) أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فُتحت مكة وأراد أن يشفي صدور خزاعة - وهم القوم المؤمنين- من بني بكر الذين قاتلوهم ونكثوا العهد معهم مكَّنهم منهم نصف النهار أو أكثر مع أمانه لسائر الناس، فلو كان شفاء صدورهم وذهاب غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين نكثوا وطعنوا لما فعل ذلك مع أمانه للناس، فدل على أن شفاء الصدور وذهاب غيظ القلوب من نكث العهد وما هو أشد منه كسَبِّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يحصل إلا بقتل الناكث الطاعن الساب، وهو المطلوب"، قلت: هذا الذي حرره ابن تيمية في غاية الحسن، وهو الذي يجده سليم الفطرة وسليم القلب وهو أنه لا يذهب غيظ قلبه عند سماع نبأ الشاتم إلا بقتل الشاتم ، وهذا يعرفه أحدنا لأنه أول ما يتمناه أن يمكنه الله من الشاتم للنبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، ومن لم يجد هذا في نفسه فليبكِ على نفسه أو ليجد لنفسه متبوعاً آخر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك.
2.قول الله تعالى:"إن شانئك هو الأبتر"،قال الإمام الطبري رحمه الله بعد ذكر أقوال المفسرين في هذه الآية:"وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال إن الله تعالى ذِكره أخبر أن مُبغضَ رسول الله هو الأقل الأذل المنقطع عقبُه، فذلك صفة كلِ من أبغضه من الناس، وإن كانت الآية نزلت في شخصٍ بعينه"، قلت: فمن كان بغضه مستوراً مبطناً عامله الله بذلك وعاملناه بظاهره، ومن أظهر بغضه للنبي صلى الله عليه وسلم وشنآنه كأن يسبه أو يشتمه عاملناه بذلك، وتعاطينا أسباب بتره وقطع عقبه حساً ومعنى، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالقتل، قال ابن تيمية رحمه الله:"فأخبر سبحانه أن شانئه هو الأبتر؛ والبتر القطع، يقال: بتر يبتر بتراً، وسيفٌ بتار إذا كان قاطعاً ماضياً، ومنه في الاشتقاق الأكبر تبَّره تتبيراً إذا أهلكه، والتبار الهلاك والخسران. وبيَّن سبحانه أنه هو – أي المبغض للنبي صلى الله عليه وسلم - الأبتر بصيغة الحصر والتوكيد، لأنهم قالوا إن محمداً صلى الله عليه وسلم ينقطع ذِكره لأنه لا ولد له، فبيَّن الله أن الذي يشنأه هو الأبتر لا هو، والشنآن منه ما هو باطن في القلب لم يظهر، ومنه ما يظهر على اللسان وهو أعظم الشنآن وأشده، وكل جرمٍ استحق فاعله عقوبةً من الله، إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب أن نعاقبه ونقيم عليه حد الله، فيجب أن نبتر مَن أظهر شنآنه وأبدى عداوته، وإذا كان ذلك واجباً وجب قتله وإن اظهر التوبة بعد القدرة، وإلا لما انبتر له شانيء بأيدينا في غالب الأمر لأنه لا يشاء شانئ أن يظهر شنآنه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل، فإن ذلك سهل على من يخاف السيف"، قلت: وهذا لا يحتاج إلى مزيد بيان فالبتر القطع، فمن أظهر لنا عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشتمه وسبه بترناه وقطعنا ذكره وطمسنا سيرته بأيدينا والحمد لله.
3.قوله تعالى:"وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون"، قال القاضي عياض رحمه الله :" واستدل بعض شيوخنا على قتله – أي الذمي الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى:"وإن نكثوا أيمانهم " وذكر الآية ثم قال رحمه الله :"وأيضاً فإن ذمتهم لا تُسقط حدود الإسلام عنهم، من القطع في سرقة أموالهم، والقتل لمن قتلوه منهم، وإن كان ذلك حلالاً عندهم، فكذلك سبهم للنبي صلى الله عليه وسلم يُقتلون به"، وقال ابن تيمية رحمه الله:"إن الذمي إذا سب الرسول أو سب الله أو عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه وطعن في ديننا، لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يُعاقَب على ذلك ويؤدب عليه، فعُلم أنه لم يعاهَد عليه، لأنا لو عاهدنه عليه ثم فعله لم تجز عقوبته عليه، وإذا كنا قد عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم طعن في ديننا، فقد نكث في يمينه من بعد عهده وطعن في ديننا فيجب قتله بنص الآية". وقال رحمه الله :"وأما من طعن في الدين فإنه يتعين قتاله، وهذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله ورسوله وطعن في الدين وإن أمسك عن غيره". فهؤلاء المجرمون ليس حالهم كحال الكافر الحربي الذي تجرد عن الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم وسبه، وقد تقدم تقرير ذلك، وعُلم أن هذا القدر الزائد على مجرد الكفر أعني السب والشتم والتنقص من مقام النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي لأجله أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماء من قارف ذلك مع كونهم متلبسين بموجبات أخرى للقتل، وهذا الطعن هو الذي جعل هؤلاء أئمة في الكفر، بحيث حثَّت الآية هنا على قتلهم خصوصاً مما يشعر بقدر جنايتهم الزائد على مجرد الكفر، وهذا كله واضح بحمد الله وتوفيقه.
4.قوله تعالى :" وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله"، ووجه الدلالة أن إعلاء كلمة الله وتطهير الأرض من الطاعنين في دينه ورسوله مطلوبٌ شرعاً كما بينت الآية، وهذا المطلوب متعذرٌ بغير قتل الساب. وتحقيق ذلك كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية:" أن تطهير الأرض من إظهار سب رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبٌ حسب الإمكان، لأنه من تمام ظهور دين الله وعلو كلمة الله وكون الدين كله لله، فحيث ما ظهر سبُّه ولم يُنتقم ممن فعل ذلك لم يكن الدين ظاهراً ولا كلمة الله عالية، بخلاف تطهيرها من أصل الكفر فإنه ليس بواجب لجواز إقرار أهل الكتابين على دينهم بالذمة؛ لأن إقرارهم بالذمة ملتزمين بجريان حكم الله ورسوله عليهم لا ينافي إظهار الدين وعلو الكلمة، بل هو من ظهور الدين وإعلائه لأنهم يقَرُّون على دينهم بالذمة صاغرين منقادين لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم خلافاً للساب".
5.الأحاديث المتقدمة التي قتلت فيها نساء كافرات بسبب السب مع أن الكافرة لا يحل قتلها لمجرد كفرها: وقد تقدم حديث قتل الأعمى لأم ولده لأنها شتمت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم أهدر دمها، وكذلك أمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل القينتين اللتين كانت تغنيان بهجائه، وهذه الأحاديث من أقوى الأدلة على أن تعين القتل هو لخصوص السب والشتم، فإن المرأة الكافرة لا يجوز قتلها فهي معصومة بالأنوثة، فلما أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماء هؤلاء النسوة وحث على قتلهن تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن سب النبي صلى الله عليه وسلم هو وحده السبب المتمحض لقتل هؤلاء النسوة لا مجرد الكفر، فتأمل هذا فهو عظيمٌ في بابه.
6.إن سب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد من مجرد الردة: ذكر ابن تيمية هذا الدليل فقال:" إن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كونه من جنس الكفر والحراب أعظم من مجرد الردة عن الإسلام، فإنه مِن المسلمِ ردةٌ وزيادة كما تقدم تقريره، فإذا كان كفر المرتد قد تغلَّظ لكونه قد خرج عن الدين بعد أن دخل فيه فأوجب القتل عيناً، فكفر الساب الذي آذى الله ورسوله وجميع المؤمنين من عباده أَولى أن يتغلَّظ فيوجب القتل عيناً، لأن مفسدة السب في أنواع الكفر أعظم من مفسدة مجرد الردة. وقد اختلف الناس في قتل المرتدة وإن كان المختار قتلها، ونحن قد قدمنا نصوصاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في قتل السابة الذمية وغير الذمية، والمرتد يستتاب من الردة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قتلوا الساب ولم يستتيبوه، فعُلم أن كفره أغلظ فيكون تعيين قتلِه أولى". قلت: وهذا قد تقدم تقريره مراراً، ويمكن تخريج هذه المسألة على قاعدة إهدار الضرر الخاص منعاً للضرر العام؛ وتوجيهه أن الكافر المعيَّن إن اقتصر في كفره على ما في باطنه فإنه لا يضر إلا نفسه، أما إن تعدى بكفره الباطن وأظهر الطعن على الدين والسب والشتم للنبي صلى الله عليه وسلم فإن ضرره يتعدى، بسبب ما قد يؤدي إليه سبه للنبي صلى الله عليه وسلم من نفور بعض الناس عن الدين، وتوهم نسبة النقص إليه حاشاه صلى الله عليه وسلم، وهذا إذا حصل فلا شك أنه ضرر عام، وفي الشريعة احتمال الضرر الخاص – وهو هنا قتل الكافر الساب الطاعن على النبي صلى الله عليه وسلم – منعاً للضرر العام وهو إعراض الناس عن دعوته صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة إن استعراض الأدلة على هذا يطول وفيما ذكرنا مضموماً إلى ما تقدم من أدلة القرآن والسنة والإجماع في المطلب الأول كفاية لمن أراد تعرف الحق، والله الموفق.