النداء التاسع و الاربعون : عواملُ النَّصرِ والهزيمة
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) } سورة الأنفال .
يَحُثُّ اللهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى الثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الأَعْدَاءِ فِي سَاحَةِ الحَرْبِ ، وَيَأمُرُهُمْ بِذِكِرِ اللهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ ، لِتَقْوَى قُلُوبُهُمْ ، وَتَثْبُتَ نُفُوسُهُمْ ، وَهَذَانِ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الفَوْزِ وَالنَّصْرِ عَلَى الأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيا ، وَمِنْ أَسْبَابِ الفَوْزِ بِالفَلاَحِ وَبِرِضْوَانِ اللهِ فِي الآخِرَةِ.
وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ تَعَالَى فِي الثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الأَعْدَاءِ المُشْرِكِينَ ، وَبِالإِخْلاَصِ لَهُ ، وَبِبَذْلِ الجُهْدِ فِي القِتَالِ ، وَبِذِكْرِ اللهِ كَثِيراً لِتَطْمَئِنَّ النُّفُوسُ وَتَهْدَأَ ، وَيُزَايلَهَا الخَوْفُ وَالتَّرَدُّدُ وَالقَلَقُ ، كَمَا أمَرَهُمْ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللهِ ، وَالتِزَامِ أَوَامِرِهِ ، إِنْجَاحاً لِلْخُطَّةِ العَامَّةِ لِلْجَيْشِ فِي المَعْرَكَةِ . ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِألاَّ يَتَنَازَعُوا ، وَلاَ يَخْتَلِفُوا ، لأنَّ فِي التَّنَازُعِ وَالاخْتِلاَفِ الفَشَلَ وَالخُذْلاَنَ وَضَيَاعَ مَا حَقَّقَهُ المُسْلِمُونَ فِي المَعْرَكَةِ { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } . ثُمَّ يُكَرِّرُ اللهُ تَعَالَى أَمْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتِزَامِ الصَّبْرِ ، لأنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ .
وَعَلَيْكُمْ ، أَيُّها المُؤْمِنُونَ ، أَنْ تَمْتَثِلُوا لِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ مِنْ طَاعَتِهِ تَعَالَى ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ الكَرِيمِ صلى الله عليه وسلم ، وَالتِزَامِ أَوَامِرِهِمَا ، وَلاَ تَكُونُوا كَأَعْدَائِكُمْ المُشْرِكِينَ الذِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ بَطَراً بِمَا أوتُوا مِنَ النَّعْمَةِ ، وَمُرَاءَاةً لِلنَّاسِ لِيُعْجَبُوا بِهِمْ ، وَيُثْنُوا عَلَيْهِمْ بِالغِنَى وَالقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ . . وَهُمْ إِنَّمَا يَقْصِدُونَ بِخُرُوجِهِم الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، وَمَنْعَ النَّاسِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ ، وَالحَدَّ مِنْ انْتِشَارِ الإِسْلاَمِ ، وَاللهُ مُحِيطٌ بِأَعْمَالِهِمْ ، وَلاَ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيءٌ ، وَسَوْفَ يُجَازِيهِمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ .
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ إِذْ زَيَّنَ الشَّيْطَانُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ أَعْمَالَهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ ، وَإِذْ حَسَّنَ فِي أَعْيُنِهِمْ مَا جَاؤُوا لَهُ ، وَمَا هَمُّوا بِهِ ، وَأَطْمَعَهُمْ بِأنَّهُمْ مَنْصُورُونَ ، وَأَنَّهُمْ لاَ غَالِبَ لَهُمْ مِنَ النَّاسِ ، وَطَمْأَنَهُمْ إلَى أَنَّهُمْ لَنْ يُؤْتَوْا فِي دِيَارِهِمْ أَثْنَاءَ غَيْبَتِهِمْ فِي قِتَالِ المُسْلِمِينَ فِي بَدْرٍ ، لأَنَّهُ جَارٌ لَهُمْ وَمُجِيرٌ ، فَلَمَّا التَقَى المُسْلِمُونَ بِالمُشْرِكِينَ ، وَرَأَى الشَّيْطَانُ مَلاَئِكَةَ اللهَ يَحْمُونَ المُسْلِمِينَ ، وَلَّى هَارِباً { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } ، وَقَالَ لأَوْلِيَائِهِ مِنَ الكُفَّارِ : إِنَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ يَرَوْنَ ، إِنَّهَ يَرَى المَلاَئِكَةَ يِنْصُرُونَ المُسْلِمِينَ ، وَإِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ عَظَمَةِ اللهِ وَقُوَّتِهِ وَسَطْوَّتِهِ ، مَا لاَ يَعْلَمُهُ أَوْلِيَاؤُهُ ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَخَافُ اللهَ ، وَيَعْرِفُ أَنَّهَ تَعَالَى شَدِيدُ العِقَابِ .
هذه هي عوامل النصر الحقيقية:الثبات عند لقاء العدو . والاتصال بالله بالذكر . والطاعة لله والرسول . وتجنب النزاع والشقاق . والصبر على تكاليف المعركة . والحذر من البطر والرئاء والبغي . .
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر . فأثبت الفريقين أغلبهما . وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون ; وأنه يألم كما يألمون , ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون ; فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه ! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار ; وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين:الشهادة أو النصر ? بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا ; وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها , ولا حياة له سواها ?!
وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن ; كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة , وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي . ومما حكاه القرآن الكريم من قول سحرة فرعون عندما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة , فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي , قولهم:(وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا . ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين) . .
ومما حكاه كذلك عن الفئة القليلة المؤمنة من بني إسرائيل , وهي تواجه جالوت وجنوده:(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا:ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) . .
ومما حكاه عن الفئات المؤمنة على مدار التاريخ في مواجهة المعركة: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير , فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله , وما ضعفوا وما استكانوا , والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا , وثبت أقدامنا , وانصرنا على القوم الكافرين . .
ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة ; فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدواً . وقد حكى الله - فيما بعد - عن العصبة التي أصابها القرح في "أحد" ; فلما دعيت إلى الخروج ثاني يوم , كان هذا التعليم حاضراً في نفوسها:(الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيماناً وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل)
إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى:إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب ; والثقة بالله الذي ينصر أولياءه . . وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها , فهي معركة لله , لتقرير ألوهيته في الأرض , وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية ; وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا ; لا للسيطرة , ولا للمغنم , ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي . . كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف . . وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة ; يحققها هذا التعليم الرباني .
وأما طاعة الله ورسوله , فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء ; فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) . .
فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه ; وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار . فإذا استسلم الناس للهورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر , إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها ! وإنما هو وضع "الذات" في كفة , والحق في كفة ; وترجيح الذات على الحق ابتداء ! . . ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة . . إنه من عمليات "الضبط" التي لا بد منها في المعركة . . إنها طاعة القيادة العليا فيها , التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها . وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله , ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلاً . . والمسافة كبيرة كبيرة . .
وأما الصبر . فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة . . أية معركة . . في ميدان النفس أم في ميدان القتال .
(واصبروا , إن الله مع الصابرين) . .
وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلب والفلاح . . ويبقى التعليم الأخير: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط) . .
يبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أن تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعاجب بقوتها ! وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في غير ما أرادها . . والعصبة المؤمنة إنما تخرج للقتال في سبيل الله ; تخرج لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر , وتقرير عبودية العباد لله وحده . وتخرج لتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده , والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية - بغير إذن الله وشرعه - وتخرج لإعلان تحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل عبودية لغير الله , تستذل إنسانية الإنسان وكرامته . وتخرج لحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم , لا للاستعلاء على الناس واستعبادهم والتبطر بنعمة القوة باستخدامها هذا الإستخدام المنكر . وتخرج متجردة من حظ نفسها في المعركة جملة , فلا يكون لها من النصر والغلب إلا تحقيق طاعة الله في تلبية أمره بالجهاد ; وفي إقامة منهجه في الحياة ; وفي إعلاء كلمته في الأرض ; وفي التماس فضله بعد ذلك ورضاه . . حتى الغنائم التي تخلفها المعركة فهي من فضل الله . .
ولقد كانت صورة الخروج بطراً ورئاء الناس وصدا عن سبيل الله حاضرة أمام العصبة المسلمة ; يرونها في خروج قريش بالصورة التي خرجت بها ; كما كانت صورة العاقبة لهذا الخروج حاضرة فيما أصاب قريشاً التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزها وكبريائها تحاد الله ورسوله:وعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة والانكسار والهزيمة . . وكان الله سبحانه يذكر العصبة المسلمة بشيء حاضر له وقعه وله إيحاؤه: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله . والله بما يعملون محيط) . .
والبطر والمراءاة والصد عن سبيل الله تتجلى كلها في قولة أبي جهل , وقد جاءه رسول أبي سفيان - بعد أن ساحل بالعير فنجت من رصد المسلمين - يطلب إليه الرجوع بالنفير , إذ لم تعد بهم حاجة لقتال محمد وأصحابه . وكانت قريش قد خرجت بالقيان والدفوف يغنون وينحرون الجزر على مراحل الطريق . فقال أبو جهل:" لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً , فنقيم ثلاثاً , ننحر الجزر , ونطعم الطعام , ونشرب الخمر , وتعزف القيان علينا , فلن تزال العرب تهابنا أبداً " . . فلما عاد الرسول إلى أبي سفيان برد أبي جهل قال:" واقوماه ! هذا عمل عمرو بن هشام [ يعني أبا جهل ] كره أن يرجع , لأنه ترأس على الناس فبغى , والبغي منقصة وشؤم , إن أصاب محمد النفير ذللنا " . . وصحت فراسة أبي سفيان , وأصاب محمد صلى الله عليه وسلم النفير ; وذل المشركون بالبطر والبغي والرياء والصد عن سبيل الله ; وكانت بدر قاصمة الظهر لهم: (والله بما يعملون محيط) . .
لا يفوته منهم شيء , ولا يعجزه من قوتهم شيء , وهو محيط بهم وبما يعملون .
ويمضي السياق يصور وسوسة الشيطان للمشركين وإغراءهم بهذا الخروج الذي نالهم منه ما نالهم من الذل والخيبة والخسار والانكسار: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم , وقال:لا غالب لكم اليوم من الناس , وإني جار لكم . فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه , وقال:إني بريء منكم , إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله , والله شديد العقاب) . .
ولقد وردت في هذه الآية والحادث الذي تشير إليه عدة آثار ; ليس من بينها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما رواه مالك في الموطأ:حدثنا أحمد بن الفرج , قال:حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون , قال:حدثنا مالك , عن إبراهيم بن أبي عبلة , عن طلحة بن عبيد الله بن كريز:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما رئي إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة , وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب , إلا ما رأى يوم بدر " ! قالوا:يا رسول الله وما رأى يوم بدر ? قال:" أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة " . .
وفي هذا الأثر عبد الملك بن عبدالعزيز بن الماجشون , وهو ضعيف الحديث , والخبر مرسل . فأما سائر الآثار فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - من طريق علي بن أبي طلحة وطريق ابن جريج . وعن عروة بن الزبير من طريق ابن إسحاق . وعن قتادة من طريق سعيد بن جبير . وعن الحسن وعن محمد بن كعب . وهذه أمثلة منها من رواية ابن جرير الطبري:
حدثني المثنى , قال:حدثنا عبد الله بن صالح , قال:حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قال:جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه راية , في صورة رجل من بني مدلج , والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم . فقال الشيطان للمشركين:" لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم " . . فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين , فولوا مدبرين . وأقبل جبير إلى إبليس , فلما رآه , وكانت يده في يد رجل من المشركين , انتزع إبليس يده فولى مدبراً هو وشيعته , فقال الرجل:يا سراقة , تزعم أنك لنا جار ? قال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب) وذلك حين رأى الملائكة .
حدثنا ابن حميد قال:حدثنا سلمة قال:قال ابن إسحاق:حدثني يزيد بن رومان . عن عروة بن الزبير قال:لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر - يعني من الحرب - فكاد ذلك أن يثنيهم . فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي , وكان من أشراف كنانة , فقال:
أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه . فخرجوا سراعاً .
حدثنا بشر بن معاذ قال:حدثنا يزيد , حدثنا سعيد , عن قتادة قوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) إلى قوله: (شديد العقاب) قال:ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة فزعم عدو الله أنه لا يد له بالملائكة , وقال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله) . . وكذب والله عدو الله , ما به مخافة الله , ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له , وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له , حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم , وتبرأ منهم عند ذلك .
ونحن - على منهجنا في هذه الظلال - لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر . فهي من أمور لاعتقاد التي لا يلتزم فيها إلا بنص هذه درجته . ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض . .
وفي هذا الحديث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم , وشجعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم ; وأنه بعد ذلك - لما تراءى الجمعان أي بريء منكم إني رأى أحدهما الآخر - (نكص على عقبيه وقال:إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله , والله شديد العقاب) . . فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم , ولم يوف بعهده معهم . .
ولكننا لا نعلم الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم , والتي قال لهم بها:لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم . والتي نكص بها كذلك وقال ما قاله بعد ذلك . .
الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها . ذلك أن أمر الشيطان كله غيب ; ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء في أمره إلا في حدود النص المسلم . والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث . .