النوع الأول من السب : الدعاء
فهذا النوع من السب مثل أن يقول القائل لغيره: لعنه الله أو قبَّحه الله أو أخزاه الله أو لا رحمه الله أو لا رضي الله عنه أو قطع الله دابره، فهذا وأمثاله سبٌ للأنبياء ولغيرهم. وكذلك لو قال عن نبيٍ : لا صلى الله عليه أو لا سلَّم أو لا رفع الله ذِكره أو محا الله اسمه، ونحو ذلك من الدعاء عليه بما فيه ضررٌ عليه في الدنيا أو في الدين أو في الآخرة
فهذا كله اذا صدر من أحدٍ فهو سبٌ يترتب عليه حكمه الشرعي على ما نبينه في الفصل التالي.
أما إن أظهر الدعاء للنبي وأبطن الدعاء عليه إبطاناً يُعرف من لحن القول، بحيث يفهمه بعض الناس دون البعض، مثل قول (السام عليكم) إذا أخرجه مخرج التحية، وأظهر أنه يقول (السلام عليكم) ولم يُظهروا السبَّ ولم يجهروا به، وإنما أظهروا التحية والسلام لفظاً وحالاً، وحذفوا اللام حذفاً خفياً يفطن له بعض السامعين، وقد لا يفطن له الأكثرون، فهذا قد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:" إن اليهود إذا سلَّموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم. فقولوا: عليك"، فجعل هذا شرعاً باقياً في حياته وبعد موته حتى صارت السنة أن يُقال للذمي إذا سلم :وعليكم أو عليكم. وكذلك لما سلم عليهم اليهودي قال: أتدرون ماقال؟ إنما قال: السام عليكم. ولو كان هذا من السب الذي هو سبٌ لوجب أن يشرع عقوبة اليهودي إذا سمع منه ذلك ولو بالجَلد، وقد أخبر الله عنهم بقوله تعالى:"وإذا جاؤوك حيَّوك بما لم يحيِّك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير"، فجعل الله تعالى عذاب الآخرة حسبهم، فدل على أنه لم يشرع على ذلك عذاباً في الدنيا، وهذا لأنهم لو قُرروا على ذلك وسئلوا عنه لقالوا :إنما قلنا السلام وإنما السمع يخطئ، وأنتم تتقولون علينا. فموجبات العقوبات لابد أن تكون ظاهرةً الظهور الذي يشترك فيه الناس، وإن إتيان السب على هذا الوجه الخفي غاية ما يكون من الكتمان والإخفاء ونحن لا نعاقبهم على ما يُسرونه ويخفونه من السب وغيره. والحاصل من هذا أنه يحتاج أن يجتمع في السب أن يكون من جنس السب وأن يكون ظاهراً لا خفاء فيه حتى تُقام البينة بوضوح لا خفاء فيه. قلت: وهنا نكتة لطيفة وهي أن الذي يُبطن السب ويُلحن القول فيه ويُغلفه بالسلام وغيره من الأقوال الظاهرة المتعامل بها بين الناس إنما يتكتم بهذا على هذا النحو لنوع مذلةٍ وقمعٍ يعيشه وهذا هو المطلوب، أعني أن تكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا،
فالسبُّ المبطَّن لا يترتب عليه الانتقاص من الدين والرسول صلى الله عليه وسلم الحاصل بإعلان السب وإطهاره، والعقوبة الشرعية في الدنيا شرعت لمن أظهر السب وأعلن به، ولهذا قال تعالى فيمن أبطن السب وأضمره وأخفاه مقموعاً ذليلاً :" حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير"، وهذا غاية العدل لأن مَن كان السب منه ظاهراً وباطناً عاقبناه في الدنيا وعاقبه الله في الآخرة، ومن كان السب منه باطناً ولم يظهره إظهاراً تقوم به الحجة عليه في الدنيا عومل بظاهره في الدنيا وعاقبه الله تعالى في الآخرة وحسبه جهنم وبئس المصير، فلم يكن لنا أن نتقدم بين يدي لله تعالى بعقوبة غير التي قرر سبحانه وتعالى أنها حسب هؤلاء، فإن مثلهم مثل الفئران في جحورها إن ظهرت ظهرت سريعاً وعادت إلى جحورها سريعاً فلم يكن هناك من داعٍ لتعقبها وقتلها خارج جحورها بل يُصار إلى تسميم جحورها لتموت وتتعفن فيها، ولله الحمد من قبل ومن بعد.
المقال السابق
المقال التالى