قوله تعالى:"يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا وقولوا انظُرنا واسمعوا":
إن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة كانوا لا يستطيعون كتمان ما في صدورهم من حقدٍ وحسدٍ تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتحينون فرص التعريض به كلما استطاعوا، فنبَّه الله تعالى المؤمنين لذلك كي لا يقعوا في مثل فعل يهود، وقال سبحانه وتعالى في تحريم التعريض بالنبي صلى الله عليه وسلم :"يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا وقولوا انظُرنا واسمعوا وللكافرين عذابٌ أليم"، قال القاضي عياض رحمه الله :" وذلك أن اليهود كانوا يقولون : راعنا يا محمد؛ أي : أرعِنا سمعك، واسمع منا، ويُعرِّضون بالكلمة يريدون الرعونة، فنهى الله المؤمنين عن التشبه بهم، وقطع الذريعة بنهي المؤمنين عنها، لئلا يتوصل بها الكافر والمنافق إلى سبِّه والاستهزاء به". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه الآية :"ما ذكره بعض أهل التفسير الذي ذكر أنها كانت سبَّاً قبيحاً بلغة اليهود، قال: كان المسلمون يقولون: راعنا يارسول الله وارعنا سمعك، يعنون من المراعاة،
وكانت هذه اللفظة سباً قبيحاً بلغة اليهود فلما سمعتها اليهود اغتنموها، وقالوا فيما بينهم: كنا نسبُّ محمداً – صلى الله عليه وسلم - سراً فأعلِنوا له الآن بالشتم. وكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها، وكان يعرف لغتهم فقال لليهود: عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده يا معشر اليهود لأن سمعتها من رجلٍ منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه. فقالوا: أولستم تقولونها فأنزل الله:" يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا"، لئلا يتخذ اليهود ذلك سبيلاً إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا القول دليل على أن اللفظة مشتركة في لغة العرب ولغة العبرانيين، وأن المسلمين لم يكونوا يفهمون من اليهود إذا قالوها إلا معناها في لغتهم، فلما فطنوا لمعناها في اللغة الأخرى نهوهم عن قولها، وأعلموهم أن ذلك ناقضٌ لعهدهم ومبيحٌ لدمائهم".
ولقد نبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام على مثل هذا التعريض حين كشف تعريض اليهود عليهم لعنة الله بالسلام، فعن ابن عمر رضي الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم، فقل: عليك"، قلت: والسام هو الموت، فكان اليهود عليهم لعنة الله يعرِّضون بالسلام ويريدون الموت كأنهم يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبه صلى الله عليه وسلم على هذا وأمر الصحابة برد المثل عليهم.
فإذا تأملنا النهي الوارد في الآية الكريمة عن قول كلمة (راعنا) مع العلم بأن الصحابة رضوان الله عليها كانوا يقولونها يريدون معناها في اللغة العربية قولاً واحداً، وأنهم لا يقصدون بها حاشاهم تعريضاً أو سباً خفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك نهوا عن استعمال هذه اللفظة تبرؤاً من سلوك أهل الكتاب الكفار أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسداً لذريعةٍ قد تؤدي إلى تعريضٍ بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا تأملنا ذلك كله أدركنا مدى عناية الله تعالى بصيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظ جنابه عن ذريعة الأذى ناهيك عن الأذى نفسه، وكيف أمر سبحانه بالبراءة من سلوك المتطاولين على مقام النبوة قولاً كان أو فعلاً، فلله الحمد في الأولى والآخرة على ما اختار لنبينا صلى الله عليه وسلم من التشريف والكرامة، وعلى ما فرضه له سبحانه وتعالى من الإجلال والهيبة صلوات الله وسلامه عليه.
المقال السابق
المقال التالى