غزوة ذات الرقاع
كانت هذه الغزوةُ في إطارِ حملةِ النبيِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعالجةِ آثارِ مأساة ِأُحدٍ، إذ طمَعتْ القبائلُ الهمجيةُ في المسلمين؛ وظنوا أن شوكةَ المسلمين كُسرت بعد أحد، ومما زاد الطينةَ بلةً أنْ عدى الأعرابُ على جماعتين من الدعاةِ إلى الله كانوا في طريقهم لدعوة بعضِ القبائلِ إلى الإسلامِ؛ فكانت مآساةُ يوم الرجيع ومذبحةُ بئر معونة؛ فقَتل العربُ في شهرٍ واحد نحو ثمانين صاحبيًا، ومن ثم كانت محصلةُ قتلى المسلمين في أحد والرجيع وبئر معونة زهاء مائةٍ .
وبعدما فرغ النبي ُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تأديب يهود النضير؛ أي بعد شهر ونصف من إجلاء بني النضير؛ توجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجيشه نحو هذه القبائلِ الغادرةِ، ( قبائل محارب وبني ثعلبة)، الذين فتكوا بالصحابة القراء الأبرياء.
***
واستعمل النبي ُـ صلى الله عليه وسلم ـ على المدينة أبا ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ ! وذلك من عجائب التربية النبوية؛ أن أمَّر النبيُ على المدينة المنورة رجلاً من غير الأوس والخزرج، بل هو في عرف الجاهلية ينتسب إلى قبيلة من الأعراب ممن عُرف عنهم قطع الطريق . وهو بذلك ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إنما يريد أن يطبق قوله : " وَلَوْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا"[1].
هكذا القيادة أوالإمامة أوالإمارة؛ لا معنى فيها للعرق، ولاقيمةَ فيها للأصل، ولا قيمة فيها للّون، فحسبُ القائدِ: العلمُ والجسمُ اللذان يُعينانه على القيادةِ بكتاب الله، وأيما عبدٌ مُجَدَّعٌ قَدِر على إقامةِ كتاب الله؛ فهو أحقُ بالإمامة من شريف حسيبٍ قرشيٍ لم تكتمل فيه شروط الإمامة.
ذلك درسٌ لهؤلاء الطَّغامِ اللئامِ الذين احتكروا الوظائف والمناصب لحسابهم ولأحسابهم، الذين أضاعوا الأمانة عندما وَسدوا الأمرَ لغير أهله، ممن هم في عداد السفهاء، وترى الواحدَ منهم يتمرغُ في النعيم والأُبهة وهو لا يكادُ يفقه شيئًا عن عمله الذي أنيط به ظلمًا؛ ومع ذلك كلِّه تراه يتكلمُ في أمور العامة كالرويبضة، فاكتسى ما ليس من أثوابه، واحتسى ما ليس من أكوابه.
والله يقول :
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }النساء58
***
سلاح الرعب
سار النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سبعمائةِ مقاتلٍ، فلما وصل إلى ديار هذه القبائل، دب الرعبُ في أرض الظالمين، وخافوا وهربوا إلى رؤوس الجبال، تاركين نساءهم وأموالهم، هلعًا وفزعًا، وهكذا الجبنُ أخو العار، كما الغدر أخو الشنار .
وهكذا ، انتصر المسلمون بالرعب .
وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ "[2].
***
صلاة الخوف
وعسكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ديارهم، ليؤكد النصرَ، وليبثَ الرعبَ، ولما كان العدو بالجبال؛ شرع اللهُ تعالى حيئنذ صلاةَ الخوف لضرروة القتال، حيث يصلي المسلمون الفرائض الخمسة في أوقاتهن بصورة أشبه بصلاة القصر؛ غير أن فئةً تحرس، وفئةً تصلى، فالإمام يُصلي بطائفةٍ ركعتين فإذا هَمَّ بالوقف للركعة الثالثة تأخروا ودخلَ الآخرون لتكونَ الركعةُ الثالثة للإمام هي ركعتُهم الأولى، وفي ذلك نزلت الآية :
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }النساء102
يدلُ هذا على أهمية الركن الثاني من أركان الإسلام، الصلاة، فلوا كان ثمةَ تهاونٌ لرفعها الله عن كاهل المجاهد الذي يقاتل عن بَيضَةِ الدين، وثغر الوطن .
ثم هو درسٌ آخرٌ في ضرورةِ ارتباطِ المجاهدِ بالله تعالى دومًا ولاسيما في ساحات القتال، ليتصفَ المجاهدُ بالربانية دومًا؛ التي هي شرطٌ أساسٌ في جند الله .
{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ }البقرة238
***
هذا، وفي هذه الغزاةُ، أربعةُ مشاهد، غايةٌ في الروعةِ والجمال :
المشهد الأول : تجلدٌ وتجردٌ
وفيه يقولُ أبو موسى :
"خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةٍ، وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ، فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا، وَنَقِبَتْ قَدَمَايَ، وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي، وَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ؛ فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ مِنْ الْخِرَقِ عَلَى أَرْجُلِنَا .. قَالَ أَبُو بُرْدَةَ : وَحَدَّثَ أَبُو مُوسَى بِهَذَا ثُمَّ كَرِهَ ذَاكَ، قَالَ : مَا كُنْتُ أَصْنَعُ بِأَنْ أَذْكُرَهُ ! كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ[3] !
وهو كما ترى مشهدٌ باسق في التجلد، سامقٌ في التجرد، وهاتان الصفتان برزت في الصحابة ـ رضوان الله عليهم جميعًا ـ بجلاءَ؛ فقد بلغ بهم الجهدُ وطولُ السفرِ مبلغًا صعبًا؛ فساروا مسافاتٍ طوالاً؛ على قلة المركب، فقد كان الستةُ يتعاقبون الظَّهْرَ الواحدة، وهذا معناه أن الواحدَ منهم ـ رضوان الله عليهم ـ يمشي خمسةَ ساعاتٍ كوامل ويركب ساعةً واحدةً فقط، ولا زالوا على هذه الحال حتى فسدتْ نعالهُم، ونَقِبت أقدامهُم، وسقطت أظافرُهم، فطفقوا يخصفون عليها من رقاع الخِرَق، ولسانُ حالِ أحدهم : أملي، الموتُ في سبيل الله ! أيتها الدنيا أنتِ طالقٌ ـ طلاقًا لا رجعة فيه ـ ! اللهم تقبل مني نفسي في رضاك !!
وبعد أن قص أبو موسى هذه القصةَ، نَدِمَ ، وكَرِهَ أن يقص عن نفسه، تورعًا وزهدًا، وخشيةً من ضياع الثواب، وقال ـ في تحسر ـ: مَا كُنْتُ أَصْنَعُ بِأَنْ أَذْكُرَهُ ! كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ !
شأنه شأن المخلصين الذين نعرفهم من فلتات ألسنتهم.
ترى كثيرًا منهم؛ يبالغون في إخفاء أعمالِهم وجهادِهم؛ حتى إذا خرجت مثلُ كلمة أبي موسى هذه؛ يتحسرُ المخلصُ حيئنذٍ تحسرَ المؤمنِ إذا واقع ذنبًا.
هؤلاء هم الأتقياء الأخفياء، يعملون لله، ويجاهدون في سبيل الله، لا ليُرى مكانُهم في الصفوف، أو ليذكرَهم الناسُ بالمدائح التي تؤدي إلى الحتوف.
هؤلاء هم المجاهدون حقًا. ثم إن الداهيةَالدهياء، والمصيبةَ الرعناء؛ أن يجهادَ المجاهدون فيسرقُ ثمرتُهم القاعدون !
***
المشهد الثاني : حراسة الثغور
وفي ليلة من ليالي الرعب هذه، سبى بعضُ المسلمين امرأةً مشركةً؛ فحلفَ زوجهُا أن يُهْرِيقَ فِي المسلمين دَمًا ، فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ الجيشِ الإسلامي، حتى نزل الجيشُ منزلاً، وكانت الحراسةُ ليلتئذ من نصيب عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ ـ من المهاجرين ـ وَعَبّاد بْنِ بِشْرٍ ـ من الأنصار ـ، وقد خرجا إلى فم المعسكر أولَ الليل، فقَالَ عباد لعمار: أَيّ اللّيْلِ تُحِبُّ أَنْ أَكْفِيكَهُ : أَوّلَهُ أَمْ آخِرَهُ ؟ قَالَ : بَلْ اكْفِنِي أَوّلَهُ [4] .
ومن ثم نام عمار، وقام عبادٌ ـ رضي الله عنه ـ يحرس ويصلي في آن واحد، فكانت هذه فرصةُ المشركِ، فَرَمَى بِسَهْمٍ فأصاب عبادًا في جنبه، فنزعه وكأنما هي شوكةٌ تافهةٌ، ولم يخرج من صلاته، وواصل قيامه !
ثُمّ رَمَاهُ المشركُ بِسَهْمٍ آخَرَ، فَنَزَعَهُ عبادٌ، وألقاه على الأرض، وَثَبَتَ قَائِمًا، وواصل قيامه !
ثم عَادَ لَهُ المشركُ بالسهم الثالث، فرماه، فأصاب عبادًا! فلم يخرج عبادٌ من صلاته، بل نزعه وركع وسجد، ثم أيقظ عمارًا.
فقَالَ عمارٌ : سُبْحَانَ اللّهِ ! أَفَلا أَهْبَبْتَنِي أَوّلَ مَا رَمَاك ؟
قَالَ :كُنْت فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا فَلَمْ أُحِبّ أَنْ أَقْطَعَهَا حَتّى أُنْفِدَهَا ، فَلَمّا تَابَعَ عَلَيّ الرّمْيَ رَكَعْتُ فَأَذِنْتُك ، وَأَيْمُ اللّهِ لَوْلا أَنْ أُضَيّعَ ثَغْرًا أَمَرَنِي رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ بِحِفْظِهِ لَقَطَعَ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا أَوْ أُنْفِدَها [5]!
أغلبُ الظنِ أن هذه الصحابي وصل إلى درجة من الخشوع والاستمتاع بالقيام وبتلاوة القرآن مبلغًا جعله لا يبالي بتلك (الوخزات) التي كان يشعرُ بها في قيامه.
بل كنا نقرأ الرعبَ في قلبِ الرامي نفسِه؛ شديدًا، شدةَ هذا الخشوعَ الذي عايشه عبادٌ ـ رضي الله عنه ـ .
فما أحوجنا لخشوع عبادٍ بين صفوف العُباد !
وما أحوجنا لمثل تلك النفسِ الزكيةِ الذاكيةِ المتقدةِ التي لا تؤثرُ فيها ضرباتُ الأعداء قيدَ أُنْمُلَةٍ !
وهذا الموقفُ فيه إشارةٌ لطيفة، أنهم ـ رضوان الله عليهم ـ أحرصُ الناس على الوقت؛ فلم يكتفِ عبادٌ بالحراسة بل جمع لها "القيام"، استثمارًا للوقت، رغم ما بهم من ضنك وعوز، وقد علمتَ سبب اسم الغزوة.
***
المشهد الثالث : شجاعة وثقة :
وفي طريق العودة إلى المدينة، نزل الجيشُ الإسلامي ـ حين أدركته الْقَائِلَةُ ـ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ ـ وهو نبات شوكي ـ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ؛ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تَحْتَ سَمُرَةٍ[6]؛ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ .
قَالَ جَابِرٌ :
فَنِمْنَا نَوْمَةً ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَدْعُونَا فَجِئْنَاهُ فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : "إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي، وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ، وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي : مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قُلْتُ : اللَّهُ ! [ فسقط السيفُ من يده] فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ!"، ولَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ[7].
إنّ أصحاب الرسالات ليسوا في مأمن من رزية الاغتيال . فها هو سيد الدعاة يكابد محاولاتِ الاغتيال في كل عام مرةً أو مرتين .
وهو مع ذلك كلِّه يمضي في طريق الدعوة على ثقةٍ بنصر الله، سواءً عاش الداعيةُ أو مات.
ثم أنت ترى مدى هذه الثقةِ العجيبة التي ظهرت في ردة فعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الموقف الخطير، حينما فتح عيناه، وإذا بسيفه في يد عدوه، وقد شد الأعرابيُ عليه بالسيف صلتًا، فما أسهلها من قتلة !
أنتَ رأيت لقطةً طبيعية لتلك النفسِ الزكية، فلو كانت نفسُ ملكٍ من ملوك الدنيا، أو قائدٍ من قادة الباطل ـ لظهرت ملامحُ أخرى، هي ملامحُ الخوفِ والهلعِ والجزع .
إن كلمةَ ( الله ) التي خرجت من فم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهي بألف ألف كلمة ( الله ) خرجت من فم غيره؛ فتلك التي خرجت من فم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما خرجتْ من سويداء قلبٍ خاشع عظيم؛ يقدر قدر ( الله)، يثقُ في الله، مطمأنٌ به، يعلم جيدًا أن اللهَ لن يخذل الدعوة وإن قُتل الداعية، وما له لا يعبأُ بمصرعه، وقد كتب الله النصر لدينه .
فليتَ كلمةَ ( الله ) تنطقُ بها القلوبُ قبل أن تنطق بها الألسنةُ !
وليتَ المسلمَ يرقدُ ـ كما رقد النبي ـ على ثقةٍ في الله، ويستفيقُ على ثقةٍ في الله، كما استفاق عليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد امتلىء قلبُه العظيم بفيض عارم من الإكبار والإعظام لجناب الله، والعورافِ الجسامِ لسنن الله !
وعفا النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذا الأعرابي . فخلقُ العفوِ، سجيةٌ طبيعية في تلك النفسِ الزكية..{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }القلم4،{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107..
هذا السيفُ الذي سقط من يد الأعرابيِ، لهو سيفٌ جديرٌ أن يمزق جميعَ كتابات المستشرقين الذي افتروا فريةَ أن الإسلامَ انتشر بحد السيف !
المشهد الرابع : تفقد الإخوان :
وفي طريق العودة ـ أيضًا ـ، نظر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جيشه فلم ير جابرَ بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ، وقد كانت سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتفقد أصحابه دومًا في المنشط والمكره .
وجابرٌ ـ رضي الله عنه ـ أهلٌ لهذه العناية في هذه الأيام بالذات؛ فقد قُتل أبوه في معركة "أُحدٍ "، وهو سيدٌ من سادات الأنصار، وقد خلّف وراءه تبعةٌ ثقيلة تَحمَّلها ابنه الأكبرُ هذا وحده، وترك الأبُ لولده مهمةَ رعاية البنات اليتم، وقد بلغ عددهن سبعًا، على فقر وشظف، وكان أجدر بغير جابرٍ أن يتخلف عن مثل هذه الغزوة، متعللاً بهذه المسؤولية الأسرية الصعبة، ولو تخلف مثل جابر لكان له في ذلك ألفُ عذر .
ولكنها أسرة مسلمةٌ مجاهدة، وربها مجاهدٌ ابن مجاهد، ومن يشابه أباه فما ظلم .
لقد رق النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو صاحبُ القلبِ الرؤوف ـ لحال جابر وآل جابر وبيت جابر، فيبدو أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يلحظه بعين رحمته الشفيقة بين الفينة والأخرى، كما ينظر أحدنا لولده شفقةً من حينٍ إلى آخر؛ حتى لم يجده مرةً في صفوف الجيش، وقد جعل الجيش يمضي وجابرٌ يتأخرُ به جملُه العليل .. ويكأنَ العلةَ قد أصابت جابرًا في كل بيته حتى جملَه !
فإذا النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُدرك ذلك، فيؤخرُ جمله ليلحق بجابر في آخرِ الجيش، فأدركه، وعلم ما حل بجمله من علة، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
"أَعْطِنِي هَذِهِ الْعَصَا مِنْ يَدِكَ " !
قال جابر: فَنَخَسَهُ بِهَا نَخَسَاتٍ، ثُمَّ قَالَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ارْكَبْ "، فَرَكِبْتُ فَخَرَجَ، وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ يُوَاهِقُ نَاقَتَهُ مُوَاهَقَةً !
ثم دار هذا الحديث الرقيق الرفيق، الذي يعبر عن نفس زكية عظيمة كانت بين جنبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، تبين لك كيف كان حرصه على المؤمنين، وكيف كان يتذرع الذرائع من أجل أن يخدمهم، ويصنعُ الصنائع من أجل أن يكرمهم :
قال رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : "أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا يَا جَابِرُ ؟ "
قال جابر : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! بَلْ أَهَبُهُ لَكَ !
قَالَ : " لا وَلَكِنْ بِعْنِيهِ "
قال جابر : فَسُمْنِي بِهِ !
قَالَ : " قَدْ قُلْتُ أَخَذْتُهُ بِدِرْهَمٍ " !!
قَالَ : لا إِذًا يَغْبِنُنِي رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ!!
قَالَ : "فَبِدِرْهَمَيْنِ"
قَالَ جابر :لا
ولم يزل هذا الحديث الفكه هكذا، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرفع له في سعر الجمل حتى بَلَغَ الأُوقِيَّةَ .فقَالَ جابر : فَقَدْ رَضِيتُ .
فقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ : "قَدْ رَضِيتَ ؟ "
قال: نعم .. هو لك
قال : " قَدْ أَخَذْتُهُ "
ثم انتقل الحوار الكريمُ إلى مجال آخر، وقد تحدث النبي إلى جابر كما يتحدثُ أحدنا إلى أخيه أو صديقه، حديث َالرجل للرجل، مع ظرف وطرف ولطف :
فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجابر :
" يَا جَابِرُ هَلْ تَزَوَّجْتَ بَعْدُ ؟ "
قَالَ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ: " أَثَيِّبًا أَمْ بِكْرًا "
قَالَ : بَلْ ثَيِّبًا
قَالَ : " أَفَلا جَارِيَةً تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ ! "
قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَبِي أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ بَنَاتٍ لَهُ سَبْعًا، فَنَكَحْتُ امْرَأَةً جَامِعَةً، تَجْمَعُ رُءُوسَهُنَّ، وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ.
قَالَ : "أَصَبْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ "
ثم قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
" أَمَا إِنَّا لَوْ قَدْ جِئْنَا صِرَارًا [ موضع قرب المدينة ] أَمَرْنَا بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، وَأَقَمْنَا عَلَيْهَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَسَمِعَتْ بِنَا، فَنَفَضَتْ نَمَارِقَهَا " !
قَالَ : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ نَمَارِقَ !
قَالَ : "إِنَّهَا سَتَكُونُ ! فَإِذَا أَنْتَ قَدِمْتَ فَاعْمَلْ عَمَلاً كَيِّسًا ! "
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }الشعراء215 .
قَالَ جابر : فَلَمَّا جِئْنَا صِرَارًا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ؛ فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ دَخَلَ، وَدَخَلْنَا، ... فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخَذْتُ بِرَأْسِ الْجَمَلِ فَأَقْبَلْتُ بِهِ حَتَّى أَنَخْتُهُ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ جَلَسْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْهُ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَرَأَى الْجَمَلَ، فَقَالَ : "مَا هَذَا"، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا جَمَلٌ جَاءَ بِهِ جَابِرٌ، قَالَ : " فَأَيْنَ جَابِرٌ"، فَدُعِيتُ لَهُ، قَالَ : " تَعَالَ ! أَيْ يَا ابْنَ أَخِي ! خُذْ بِرَأْسِ جَمَلِكَ فَهُوَ لَكَ ".
فَدَعَا بِلَالاً، فَقَالَ : " اذْهَبْ بِجَابِرٍ فَأَعْطِهِ أُوقِيَّةً"، فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً وَزَادَنِي شَيْئًا يَسِيرًا .
قَالَ جابر : فَوَاللَّهِ مَازَالَ يَنْمِي عِنْدَنَا، وَنَرَى مَكَانَهُ مِنْ بَيْتِنَا [8] .
نفسٌ عظيمة؛ وسعت المؤمنين رحمةً، وصدق الله العظيم: {حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }التوبة128
***
هكذا كانت هذه الغزوة، مترعةٌ بدروس جليلة، دروسٌ في الشجاعة والبسالة، والتجرد والتجلد، في أهمية الصلاة، وفي ضرورةِ استشعارِ المسلمِ لخطرها، في فضل حراسة الثغور، وقيام الليل والخشوع، في فضلِ تفقدِ الإخوانِ، والمشاركة في إصلاحِ معايشهم، وإزالة كرباتهم، مواساتهم في محنهم .
توصيات عملية :
1ـ راقب قلبك دومًا في الإخلاص والتجرد، ولا تتكلم عن أعمالك الصالحة إلا لضرروة أو مصلحة .
2ـ شاركْ في رحلة سيرة مع بعض الرفاق، يُتدارس فيها غزوةُ ذاتِ الرقاع.
3ـ اعقد مدارسة قرآنية حول سورة الكهف، تلك التي كان قام بها عبادٌ ليلة حراسته للعسكر.
4 ـ تفقد إخوانك، وشارك في إصلاح معيشتهم، ولو بالدعاء لهم بظهر الغيب.
---------------
[1] أخرجه مسلم ( 3421)
[2] أخرجه البخاري (323)
[3] أخرجه البخاري (3816)
[4] انظر : ابن هشام 2 / 207
[5] انظر : ابن هشام 2 / 207
[6]شجرة
[7] أخرجه البخاري ( 3822)
[8] أخرجه أحمد ( 14495) قال شعيب الأرنؤوط : حديث صحيح وهذا إسناد حسن