قرصنة السّوِيقِ
الأحد 5 ذو الحجة 2هـ - 28 مايو 624 م
إنها غزوة السويق، وأجدر بنا أن نسمي هذه الغزوة بقرصنة السويق، فقد هاجم المشركون مراعي المدينة المنورة فُجئة، وأفسدوا فيها خلسة، وقتلوا فلاحًا يزرع في أرضه غدرًا .
أما عن البُعد الزمني لهذه القرصنة، فهي كانت بعد معركة بدر بشهرين، إذ هُزم المعسكر الوثني شر هزيمة، وخسروا في أرض بدر سادات مكة، حيث دُفن عشرات الصناديد في قليب بدر وكان منهم عمرو بن هشام وعتبة وشيبة وأمية وغيرهم من سادات مكة .
ليسوا سواء
ورجع فَلُّ الوثنيين إلى مكة موتورين محزونين مقهورين؛ فنذر أبو سفيان ألا يمس رأسه ماء، ولا يغتسل من جنابة – وكان قد حَرّمَ على نفسه الطيب -، حتى يغزو المسلمين في عقر دارهم فيقتل منهم كما قتلوا من المشركين، فخرج في مئتي مقاتل لِيَبَرّ يَمِينَهُ، حتى نزل إلى جبل قرب المدينة يقال له ثَيْب، فعسكر هناك، ثم خرج من الليل فأتى حُيَيَّ بْنَ أَخْطَب – أحد زعماء اليهود-، فضرب عليه بابه فرفض أن يفتح، فلا يجوز له كقائد فصيل من فصائل الدولة أن يستقبل على أرض المدينة عدوًا من أعداء المسلمين، فذلك محض خيانة، فَانْصَرَفَ أبو سفيان عَنْهُ..ورجع عن بابه أسيفًا مطرودًا.
ثم ذهب أبو سفيان إلَى سَلامِ بْنِ مِشْكَمٍ - وَكَانَ سَيّد بَنِي النّضِير ِ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ وكان رئيس خزانتهم - فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَذِنَ الملعونُ لَهُ فأطعمه وَسَقَاهُ خمرًا، وقام سلام بدور الجاسوس الخائن لوطنه، وكشف له عن أسرار المسلمين، وبحث معه إحدى الطرق لإيقاع الأذى بالدولة، ولم تكن المخابرات الإسلامية غافلة عن ذلك ..
***
والموقف الأول من حيي بن أخطب، يبين لك كيف كانت معاملة النبي – صلى الله عليه وسلم – للأقليات الدينية في المدينة، من حسن خُلق، وكريم فضل، وتعاون على الخير؛ فضلاً عن تلك الوثيقة التي جمعت بين المسلمين والفصائل الأخرى والتي كان من شروطها الواضحة :
" وَإِنّهُ لا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالاً لِقُرَيْشٍ وَلا نَفْسَهَا ، وَلا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ"[1] .
ومادة أخرى مخصصة لقريش تقول :
" وَإِنّهُ لا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلا مَنْ نَصَرَهَا "[2] .
ومادة عامة تقول :
" وَإِنّهُ لا يَحِلّ لِمُؤْمِنٍ أَقَرّ بِمَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَآمَنَ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا وَلا يُؤْوِيهِ، وَأَنّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ فَإِنّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللّهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ."[3] .
ولا شك أن الأخلاق النبوية في التعامل مع الأقليات وهذه الشروط التي وقّع عليها اليهود دفعت حيي بن أخطب للوفاء، فجعلت يرد أبا سفيان.
إنه درس للقيادة الإسلامية أن تستخدم المحورين في التعامل مع الأقليات غير الإسلامية؛ أن تحسن استخدام المحور الأخلاقي من حسن التعامل والرفق ، وأن تحسن استخدام المحور القانوني بعقد المواثيق والاتفاقات التي تُلزم الأقليات غير الإسلامية باحترام الدين الإسلامي والعمل حفظ سلامة الوطن .
***
والموقف الثاني من سَلامِ بْنِ مِشْكَمٍ – قبحه الله -، يبين لك أن اليهود ليسوا سواء، فمنهم من يصون ومنهم من يخون، على أن الخيانة في غالبهم، والفسق في معظمهم، قال الله تعالى :
" وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم، مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ " [آل عمران110]
وقال :"لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ " [آل عمران:113].
ثم يبين لك خطر الخيانة عندما تكون من داخل الدولة، وخطر اليهود عندما يكونون في بقعة من بقاع الأرض، وأن سواد اليهود لا يحترمون عهدًا ولا ميثاقًا، فهذا اليهودي الخائن زعيم قومه استضاف العدو على الأرض الإسلامية، وأطعم وسقى وأسمر، واشتغل بدور الجاسوس، فأخذ يرشد الأعداء عن أفضل الطرق للإيقاع بالمسلمين، وأنجع الوسائل لفض عروة الوطن .
تجريم قتل المدنيين وإفساد المزارع
وخَرَجَ أبو سفيان من دار سلام بن مشكم، وقد حرضه الأخير، وحفّزه وبصّره، وتوجه أبو سفيان إلى معسكره، فَبَعَثَ مفرزة إلَى الْمَدِينَةِ يقودهم .
فَأَتَوْا إلى منطقة زراعية من أطراف المدينة (يقال لها الْعَرِيضُ في طرف حرة واقم) - فقتلوا رجلين يعملان في الحرث – أحدهما معبد بن عمرو الأنصاري ، والثاني : أجيره كان يعمل له في زرعه- وأحرقوا نخلاً، وَحَرّقَوا بَيْتَيْنِ، وتبنًا، وفروا عائدين إلى مكة[4] .
***
وأسلوب النهب والسلب وقتل المدنيين معهود من أعداء هذه الأمة قديمًا وحديثًا، وقد حرم الشرع الإسلامي السمح قتل الأبرياء في الحرب، خاصةً الزراع والأجراء، كما حرم هدم البيوت والمعابد . بيد أن الصليبية القديمة والحديثة لم تدخر جهدًا في انتهاك حقوق الإنسان، فذبحت ملايين الأبرياء في الهجمة الصليبية الأولى على الشام، وقتلت – حديثًا - بالأسلحة المحرمة دوليًا مئات الآلاف من الأطفال والشيوخ والأسرى والجرحى في العراق وأفغانستان.
ولقد نصت المادة الثالثة من اتفاقية جنيف الأولىلتحسين حال الجرحى والمرضىبالقوات المسلحة في الميدان المؤرخة في 12 آب / أغسطس 1949 .. أن " الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة في الأعمال العدائية، بمن فيهم أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا عنهم أسلحتهم، والأشخاص العاجزون عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر، يعاملون في جميع الأحوال معاملة إنسانية، دون أي تمييز ضار يقوم على العنصر أو اللون، أو الدين أو المعتقد، أو الجنس، أو المولد أو الثروة أو أي معيار مماثل آخر" .
بيد أن هذه الاتفاقات صارت حبرًا على ورق، ونظرة واحدة إلى سلوك الجيش الصهويني في فلسطين - أو نظرة واحدة إلى سلوك الجيش الأمريكي في العراق – تكفي لإقناعك أن هذه الاتفاقات صارت شعارات، لا مكان لها في ميادين القتال، إنما ميدانها في أروقة النخب المثقفة، وقاعات المؤتمرات المكيفة .
سرعة الردع
فلما قام الجيش الوثني بهذه القرصنة– غير الأخلاقية -بغتة على حدود المدينة، وأحرق ونهب وقتل.. نَدَبَ نبينُا – صلى الله عليه وسلم – فورًا، وخرج سراعًا في مائتين من المهاجرين والأنصار - يوم الأحد الخامس من ذي الحجة من العام الثاني- فِي طَلَبِهِمْ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ بَشِيرَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ - وَهُوَ أَبُو لُبَابَةَ- ، فلا زال سيد الشجعان يطاردهم حَتّى بَلَغَ قَرْقَرَةَ الْكُدْرِ ، ثُمّ انْصَرَفَ رَاجِعًا ، فَقَدْ هرب أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ[5].
ولقد أحس المشركون بالطلب فجدوا في الهرب، فلما أحسوا بالخطر أخذوا يتخففون من الأزواد التي يحملونها حتى تمكنوا من الفرار..
ووجد المسلمون أزوادًا كثيرة قد ألقاها المشركون و طَرَحُوهَا فِي الْحَرْثِ، وعامتها جرب فيها سويق[6]، فأخذها المسلمون، فسميت غزوة السويق.
***
وفي هذا الموقف دلالة على يقظة القائد الإسلامي وتعقبه لأي محاولة نهب أو إفساد من قبل العدو في أرض الإسلام..
ورد فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – بملاحقة ميلشيات العدو دلالة على تجريم أسلوب النهب والسلب والتعدي على المدنين والزراع ..
***
وفيه أيضًا، صورة من صور الشجاعة المحمدية، فأنت ترى في هذا المشهد كيف يركض سيد الشجعان – صلى الله عليه وسلم - وراء الجيش الهارب، وقد انبث الرعب في أحشاء المجرمين، وقد بلغ بهم الفزع أن ألقوا أزاودهم ليتخففوا، ويطلبهم وكأنما لا يريد أن تأويهم أرض ولا جبل، كأنما لا يرضي أن يمر اللقاء دون تصافح بيض الهند واللمم، وهو القائل : " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ "[7] .
وقال عنه أمير الشعراء:
واذا مشيت الى العدا فغضنـفر ** واذا جـريـت فإنـك النكـباء
وإذا غضبت فإنما هي غضـبة ** في الحــق لا كبـر ولا ظغناء
حرص الجندي على ثواب الله :
ولـمّا لـمْ يتمكن الجيشُ الإسلامي من القبض على المجرمين، بعد أن استمر رسول الله - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - في مطاردتهم وقد غاب عن المدينة خمسة أيام. خشي الأبطال أن يحرموا ثواب الله، لفشل هذه المناوشة ، َفقَالَوا -حَيْنَ رَجَعَ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - : يَا رَسُولَ اللّهِ، أَتَطْمَعُ لَنَا أَنْ تَكُونَ غَزْوَةً ؟ .. قَالَ : " نَعَمْ "[8] .
وفي ذلك درس في استحضار ثواب الله على القليل والكثير في أمر الجهاد، والحرص على ثواب الله في كل أحوال القتال، في النصر والهزيمة، أو في نجاح المهمة أو فشلها .
وفي هذا المشهد – أيضًا – منقبة عظيمة للصحابة، ودليل على حسن بلائهم، وعظيم جهادهم، وسمو إخلاصهم، ورغبتهم الشديدة في النوال الأخروي.
هذه الغزوة:
-درسٌ في إعلاء قيمة النفس المسلمة، والدماء المسلمة، إذ لما قُتل المزارع المسلم ندب القائد جيشًا لملاحقة المجرمين .
- ودرسٌ في إعلاء قيمة الحدود الجغرافية للدولة الإسلامية، حيث رأينا فور وصول الخبر إلى القيادة الإسلامية أن جيش العدو على حدود الدولة؛ لم يـتأخر القائد ولم يتوان ولم يعط الدنية في دينه .
- ودرسٌ في إعلاء قيمة الشجاعة، وضرورة التحلي بأخلاق الجسارة، وتنشأة النشء على خصال الجراءة، والإقدام والبسالة، ودراسة مناقب الشجاعة في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – إضافة إلى قراءة تراجم كبار الشجعان على مدار تاريخ الإسلام، أمثال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وخالد بن الوليد والقعقاع، والفاتح والداخل وألب أرسلان، وصلاح الدين وقطز وعز الدين القسام.
ومضة
للشجاعة طعم شهي، ولون بهي، وصوت شجي، وحلاوة الشجاعة أعظم لذةً من ركوب الفاره وتبطن الحسناء ولبس اللين وأكل الطّيب . وتاللهِ إن المعارك جمام الشجاع . وأرض القتال هي رقعته الفسيحة وعرصته العريضة . وتالله إن الشجاع في كبريائه أعظم بهاءًا من ملك يترفل في حلته بين بطانة عرجاء ونخبة عمياء .
يا حرة قلبي .. يا دموعي السخينة على شبان أمتي، خور وجبن، وضَعة وحطة . ناموا عن قضيتهم، ونسوا رسالتهم، إلا من رحم الله، "فلا نامت أعين الجبناء "!
توصيات عملية :
1_ إياك والجبنَ والخورَ .. وإذا جبُنتْ نفسك في موقف؛ فأدبها بمواقف حتى تنقاد لك طائعة باسلة .
2ـ استعذ بالله من الجُبن، وعليك بأذكار الصباح والمساء والتي منها : "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَلْعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ."
---------------------
[1] ابن هشام : 1/502
[2] ابن هشام : 1/502
[3] ابن هشام : 1/502
[4] انظر : ابن سعد : 2 / 30 وابن هشام 2 / 45
[5] انظر : ابن هشام 2 / 44
[6]وهو قمح أو شعير تحمص ثم تطحن باللبن والعسل والسمن
[7] أخرجه البخاري (323)
[8] ابن سيد الناس 1 / 390.