الهجرة النبوية
حول باب الهجرة
أورد الإمامُ البخاري بابَ الهجرة في كتاب المناقب تحت عنوان طويل يقول :
" بَاب هِجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأنْصَارِ)، وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ، أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ ) . ."
***
وهذا العنوان يُدّللُ لك على حصافة البخاري؛ ولطافة المعنى الذي وُفّقَ لفهمه؛ إذ أورد الهجرة في كتاب المناقب. فالهجرة منقبة وأي منقبة ! أكرم مناقب الإسلام، وأعظم حوادث سيد الأنام، ولم يسقها البخاري في سياق التاريخ رغم أن الهجرة من أجَلِّ أحداث التاريخ، ذلك الحادث الذي أعاد دورة التأريخ من جديد، إنما سطرها في كتاب المناقب ليُعلمَ فضلها ولتُفهم منقبتها. . نعمةٌ خصت الدين، وعمت المسلمين، وأعلت للإسلام يدا، وفتت من الباطل عضدا، وشدت من الإيمان سُننا ، وأزالت عصر الوثن سرمدًا..
***
ولم يؤرخ المسلمون بمولد النبي – صلى الله عليه وسلم- ولا بوفاته، ولا بيوم الفرقان، ولا بيوم الفتح، إنما أجمعوا على الهجرة؛ لفقههم بقدرها، ولعلمهم بأهميتها؛ إذ هي التي نقلتهم من مرحلة الجماعة إلى مرحلة الدولة، ومن عهد الاستضعاف إلى عصر التمكين، ومن سمة المحلية إلى سمة العالمية .
فلما عظمَ فضل الهجرة على كل فردٍ من أمة الإسلام حتى قيام الساعة؛ أبان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اسْتِمْسَاكِهِ بجماعة المهاجرين التي ينتسب إليها من الناحية الحركية، فقال يؤكد فضل الهجرة :
" لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ " ..
إنه يبيْن لك أن درجة الهجرة أعلى في الدرجة من النصرة، وكلتاهما أبطنت أحشاؤها فضلاً ومجدًا، وكرامة وسؤددًا !
وهو يبين لك في هذا الجملة البلغية : " لولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار" – فَضْلُ الهجرةِ وفضلُ الأنصار في عبارة واحدة .
فمَنْ عَلِمَ فَضْل الأنصار وجهدهم وقدْرَهم؛ عَلِمَ على أثر ذلك فضل الهجرة ..
ومَنْ عَلِمَ أهمية الهجرة وخطير فضلها؛ علم بذلك فضل الأنصار وجليل ودروهم..
***
ويبدو أن الله تعالى أراد أن يمهد لهذا الحدث العظيم، بحيث يتقبل الصحابة أمر هجرة الأوطان والأهل والديار بنفوس مُهيئة.
ولقد تمت هذه التهيئة – بالفعل - على عدة نطاقات:
نطاق نظري فكري : بنزول القرآن يشرح فضل الهجرة وأهميتها في تاريخ الدعوات، فكانت الآيات القرآنية تقص هجرات الأنبياء، إبراهيم ولوط ويوسف وموسى .. فضلاً عن قصة أصحاب الكهف الذين هاجروا في سبيل الله ..
كما تحبذ الآياتُ الهجرةَ من أجل العبادة :
"يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ " [العنكبوت:56]
"قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ " [الزمر:10]
وتذكرُ فَضْلَ من هاجر حفاظًَا على دينه :
"وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ "[النحل:41]
"ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ "[النحل:110]
ونطاق تطبيقي تدريبي: بتقرير مشروعية الهجرة، فكانت الهجرة إلى الحبشة وكانت اختيارية .
ونطاق روحي نفساني: من خلال الرؤى، ومن ذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: (رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ، أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ ).
***
وهذه الرؤيا، تُظهر معرفة النبي – صلى الله عليه وسلم – بالبيئة الجغرافية المُحيطة به، فهو يعرف أي البلاد يكون بها النخل، ويذْكر بلدان النخل التي وقعت في نفسه:
"اليمامة " وهي بالفعل أرض نخل – ومكانها مدينة الرياض الآن -..
"هَجَرُ "، وهي بدولة البحرين الآن، وهي أرض نخيل أيضًا..
وهكذا حتى أوحى الله إليه أنها المدينة يثرب .
أرأيتَ كيف كانت ثقافة النبي – صلى الله عليه وسلم -؟
أعَلِمْتَ مدى ثقافته الجغرافية ؟ تلك التي لا تقل عن ثقافته السياسية ومعرفته بطبائع الأنظمة الحاكمة في العالم آنذاك؛ الاستبدادية منها وغير الاستبدادية، فهو القائل : "إنَّ بأرضِ الحبشةِ مَلِكاً لا يُظلمُ أحدٌ عنده، فالحقُوا ببلادِه حتّى يجعل اللهُ لكم فرجاً ومخرجاً مّما أنتُم فيهِ"[1] .
إنه – صلى الله عليه وسلم – يَعرْفُ أنظمةَ الحُكم العادلة وأين تقع، ويعرف ظلام الظلم وأين يخيم.
...لم تكن ثقافة النبي – صلى الله عليه وسلم – كثقافة بعض حكام زماننا، الذين لا يعرفون هِرّاً من بِرّ !
***
وتأسيًا بنبي الرحمة – صلى الله عليه وسلم – ينبغي أن يتزود القائد المسلم بالثقافات اللازمة، والمعارف المختلفة، في السياسة والاجتماع، والجغرافيا والاقتصاد، والتنمية والانتاج، وغيرها من فروع المعارف التي تمكّنه من ناصية القيادة، وتجمع في يديه أزِمَّةَ الريادة، وتزلل له الصعاب وتمحق له العقبات .
ينبغي على القائد المسلم أن يكون كثير المطالعة، سريع المراجعة، قوي المناظرة، شديد المقارعة، لا تنخرم له قاعدة أخلاقية في أدب الخلاف.
توصيات عملية :
1ـ مدارسة حديث الهجرة من كتاب فتح الباري لابن حجر .
2ـ كتابة مقالة عن "الهجرة في تاريخ الأنبياء ".
-----------------------------------------------
[1] أخرجه البيهقي في "السنن " (9/9)، عن أم سلمة، وهو في السلسلة الصحيحة، برقم 3190