تعوَّدنا أن نرى الأشياء المحسوسة، وأن نحسب حسابها، ونؤكِّد عليها، ونعلِّق عليها الآمال... مع أن لدينا مواهب وقوى كبيرة ومؤثرة جداً، لكننا لم نحتفل بها، ولم نستفد منها على النحو المأمول؛ لأننا لم نرها، ولم ندركها على ما ينبغي. في اعتقادي أن (الإرادة) هي القوة الضاربة التي وهبها الخالق – عز وجل - لبني البشر، وإن من شكر هذه النعمة العملَ على تصليبها، وتقويتها، ورفع مستوى العزيمة في خططنا وأعمالنا.
من المعروف أنه لا يمكن إنجاز أي عمل إلا بتوافر شيئين: الإرادة والقدرة، وإذا تساءلنا: أيهما أعظم أهمية؟ فإنني لا أتردد في القول: إن الإرادة هي الأهم، وذلك لأن المرء حين يعزم على شيء على نحو صادق وقوي؛ فإنه يسعى إلى توفير الإمكانات المطلوبة لتحقيقه، وإن الإرادة الصلبة تكشف عن الفرص الكامنة، بل تصنعها في بعض الأحيان، كما أنها تستنفر القوى المعطَّلة والخامدة .
ولو أننا تأملنا في الإنجازات الحضارية الكبرى - لدى كل الأمم، وفي كل العصور - لوجدنا أنها مدينة للعزيمة والإصرار، ولا يغني عنهما علم ولا موهبة، والعالم مملوء بالموهوبين الفاشلين والمتعلمين العاطلين عن العمل!.
تصوروا معي شخصاً يعاني من مرض عُضال يفتك به، وإلى جوار منزله الذي يسكن فيه مركز طبي متقدم جداً ومجاني، وهذا المركز يقصده الناس الذين يعانون من مثل ما يعاني منه ذلك الرجل من كل مكان، لكن صاحبنا يرفض العلاج بسبب أو بغير سبب، فماذا ستكون النتيجة؟
إن كل الإمكانات الطبية المتوفرة، وكل ما لديه من قابلية للانتفاع بها؛ سيصبح غير ذي معنى، وكأنه غير موجود. وإذا تصورنا مريضاً آخر تتملكه رغبة شديدة في الحصول على علاج لكنه لا يملك الإمكانات المادية لذلك؛ إن ذلك المريض سوف يسعى في كل اتجاه، ويطرق كل باب، وفي الغالب سيجد السند والعون في الوصول إلى ما يسعى إليه.
إذا تأملنا في التفاوت بين الناس على صعيد الإنجاز والنجاح، وعلى صعيد العمل والعطاء والاستقامة...؛ فإننا نجد أن ذلك التفاوت يحدث بسبب اختلاف إرادات الناس، وليس بسبب اختلاف قدراتهم، وهذا طبعاً في الأعم الأغلب. لدينا أعداد هائلة من الشباب والنساء الذين يستطيعون قراءة كتاب في الشهر، كما يستطيعون قراءة نصف جزء من القرآن يومياً، ويستطيعون التصدق بمبلغ زهيد من المال أسبوعياً... لكن فئة قليلة منهم هي التي تفعل ذلك، وهي الفئة التي تملك إرادة الفعل.
ومن هنا يمكن القول: إن الأزمة الحقيقية التي يعاني منها المسلمون، على معظم الصعد الحضارية، وعلى صُعُد رد العدوان، وتحرير المقدسات... هي أزمة إرادات لا أزمة قدرات ، لكن الناس يستحيون من القول: إننا لا نريد أن نقرأ، أو لا نريد طرد العدو من أرضنا، فيلجؤون إلى الزعم بعدم امتلاك القدرة، وهم يفعلون ذلك لأنهم يعرفون أن القول بأنهم لا يريدون فعل كذا.. يشكِّل نوعاً من الإدانة لهم، ويعبر عن سوء الوجهة والمقصد، أما القول بأنهم لا يقدرون؛ فإنه مقبول، لأنه ينطوي على احتمال العجز واحتمال تدخل عوامل خارجية غير داخلة تحت السيطرة، وهذا ما فعله المنافقون حين تخلَّفوا عن غزوة تبوك، فقد اعتذروا بعدم الاستطاعة كما أخبر الله عنهم حين قال: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[1]. ثم أخبر – عز وجل - أن المشكلة ليست مشكلة قدرة، وإنما مشكلة إرادة: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأََْعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}[2]
إن من رحمة الله - تعالى - أن قدرة الناس على تنمية إراداتهم وتقويتها أعظم بكثير من قدرتهم على تنمية الإمكانات والطاقات التي لديهم ،وأعظم من قدرتهم على تحسين بيئاتهم وظروفهم، ولكن من الواضح أيضاً أن تقوية الإرادة قد يعني خوض نوع من الحرب الداخلية، حيث يجد المرء نفسه مطالباً بالوقوف ضد المغريات، والشهوات، وضد بعض طباعه وعاداته الرديئة، وهذا ليس بالسهل، إلا إذا سهَّله الله - تعالى - ولابد من الإشارة هنا إلى أن كل مجتمع يحدد لأفراده السويَّة المطلوبة من صلابة الإرادة حتى يكونوا لائقين اجتماعياً، والمجتمع يفعل ذلك بدافع من عقائده، وعلى هدي أولوياته واهتماماته.
ومن هنا نجد - مثلاً - أن المجتمع الذي يهتم بصلاة الجماعة، أو بطلب العلم، أو بالمظاهر والشكليات، أو بالطعام والشراب... يرفع سوية اهتمامات أبنائه، وسوية إراداتهم بهذه الأمور، ويلقنهم الأدبيات والرمزيات المتعلقة بها، مما يجعلهم يعملون من أجلها، من غير الشعور بتحمل أعباء أو تكاليف غير عادية. وهذا يعني أن قوة الإرادة منتج اجتماعي، وهي أشبه بهدية يقدمها المجتمع لأبنائه مقابل انخراطهم في أعرافه وتقاليده ومبادئه وقيمه.
وهذا يفتح عيوننا على شيء مهم؛ هو الحرص على اختيار البيئة الصالحة والمتعلمة؛ لأن العيش فيها يزود المرء بطاقات إضافية على صعيد الاتجاه نحو الفلاح والنجاح، ونحن نعرف هذا من الثواب العظيم الذي جعله الله للمؤمنين إذا ما هاجروا من مكة - قبل فتحها - إلى المدينة، ونعرفه كذلك من التحذير الوارد من الإقامة في دار الكفر؛ إلا في حالات معينة.
في المقال القادم سأتحدث بإذن الله؛ تعالى عن أدوات تقوية الإرادة.ومن الله الحول والطول.
[1] سورة التوبة: 42.
[2] سورة التوبة: 46.