لا أخاف أبدًا مِن اختلاف أهْل العِلْم المُحقِّقين أهلِ الوَرَع، والباحثين عَن الحق والحقيقة؛ لأن الأصول التي تَجمَعُهم، والخَلفِيَّات العِلمِيَّة المشترَكة التي ينطلقون منها تجعل اختلافَهم محصورًا، وقابِلاً للتفسير والنِّقاش. وهم يَعرِفون مِن خلال خبرتهم بأصول الاجتهاد، ومواردِ الأدلَّةِ، وطبيعة فَهْمِ الأشياء، أنهم لا يَنطِقون بأقوال وأحْكَام قَطعِيَّة، ورَحِمَ اللهُ الإمامَ الكبيرَ محمدَ بنَ إدريسَ الشافعيَّ حين قال: "مَذهبُنا صوابٌ يَحتَمل الخطأَ، ومَذهبُ غيرِنا خطأٌ يَحتَمل الصوابَ".
وهذا القولُ في المسائل الفقهية، أمَّا في المسائل الحضارية وكُلِّ ما يَتَّصِل بتفسير التاريخ والواقعِ وما يَتَعلَّق بالتخطيط للمستقبَل؛ فإنَّ الأمر أوسعُ من هذا بكثيرٍ؛ فقدْ يَختَلف اثنان مِن المُتخصصِينَ في أَمْرٍ، ويكونُ مع كُلِّ واحدٍ منهما شيءٌ مِن الحق، وقد يكونان على خَطأٍ، والصوابُ مع شخص ثالث، وقد يَختَلف بعضُ أهلِ العِلْم والتَّخصُّصِ في أَمْرٍ لمْ يَختَلفْ فيه مَن سَبَقَهم . ولهذا فإنَّ على أهل الفِكْر والدَّعوة والتاريخ وعُلماءِ الحضارة أنْ يَكُونُوا مُتسامِحِينَ مع الاجتهاداتِ التي تَصْدُر عَن بعضِهم، ما لمْ تُصادِمْ إجْماعًا أوْ نَصًّا قَطْعِيًّا في ثُبُوته ودَلالَتِه، وهذا في المسائل الحضارية قليلٌ جدًا، بل نادرٌ.
لاستيعاب هذه الفكرةِ: انظر إلى اختلاف فقهاءِ الإصلاحِ والنُّهُوض الحضارِيِّ حين يَتحَدَّثُون عَن أوْلَوِيات التغيِير، وأنَا هنا لا أتَحدَّث عَنِ المُصلِحِين الذِينَ يَنتَمُون إلى مِلَلٍ شَتَّى أو مَذاهبَ مُتباعدةٍ، وإنَّما أَتَحدَّثُ عَنِ المُصلِحِينَ الذِينَ يُفكِّرون ويَتحَرَّكون في إطار أهلِ السُّنَّة والجَمَاعَةِ. إذا نَظرْتَ إلى اجتهاداتِهم في هذا الأمرِ؛ فَسَتَجِد أنَّ منهم مَن يَرَى أنَّ بداية الإصلاح يَجِب أنْ تَكُون مِن إصلاح العقيدة، وتَعلِيمِ الناسِ أصولَ التَّدَيُّن الصحيح، ومنهم مَن يَرَى أنَّ البداية تَكُون بإصلاح السِّياسة، ومنهم مَن يَنظُر للاقتِصاد على أنَّه مِحَوْرُ الحياة، وأنَّ النُّهُوض به سيُساعِد على النُّهُوض بكُلِّ جوانبِ الحياةِ.
ومِنَ المُصلِحِين مَن يَرَى أنَّ تَرْبية الناس على الفضائل والأخلاق الحَسَنة هي المُنطلَقُ الصحيح، أمَّا المُشتَغِلون بقضايا الفِكْر والتفكير فيَرَوْنَ أنَّ إصلاحَ الأدمِغَة يَجِب أنْ يَسبِق أيَّ إصلاحٍ، وهكذا...
لا شك أنَّ هذا خِلافٌ مَشرُوعٌ ولا شك في أنَّ لكُلِّ فَرِيق أدلتَه ومَنطِقَه، ولهذا فإنَّ مع كُلِّ واحدٍ منهم شيئًا مِن الحق، والذي يُرَجِّح وجهةَ نَظَرٍ على أُخرَى هو حَجمُ القُصُور والانحرافِ المَوْجود في مجال مُعَيَّنٍ وفي بلد معين، مع أنَّ أهلَ العِلْم وكُلَّ مَن أشرْنا إليهم قد يَختَلِفون أيضًا في تقدير الانحراف ووزنِ خُطُورته. ومع كُلِّ ذلك، فإنَّ اختلافَ مَن يَتوافرُ لديهِمُ العِلْمُ والوَرَعُ يُشكِّل مَصدَرًا لِغِنَى الحياةِ الثقافية، ويُساعِد على تَوفير فضاءٍ للحركة، كمَا يُساعِد على رَفْع الحَرَج عَن كَثير مِنَ الناس.
إنَّ الشريعة التي جاء بها مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - هي خاتَمةُ الشرائع، وهذا يَعنِي أنَّ الناس سَيَجِدون فيها ما يُرشِدهم ويَهدِيهم إلى الطريق القويم، وما يُساعِدهم على إعمار الأرضِ، وتنميةِ الحياة مِن غيْر عَسْفٍ ولا حَرَجٍ، وسَتَجِد ما يُثير الإعجابَ والدَّهشةَ حين تُطالِع في الإحالة على الواقِع وتنزيلِ الأحْكام عليه - وهو ما سَمَّاه الأصولِيُّون بـ(تحقيق المَنَاط) -؛ حيث تَرَى ما تُوَفِّره الشريعةُ الغرَّاء لأهل العِلْم والاختصاص مِن دور حيويٍّ وجوهريٍّ في فَهْم الظروف، وتقدير المخاطر، ورؤية إمكانات النجاح، وما يَترَتب على كُلِّ ذلك مِن اجتهاداتٍ تُواكِب حركةَ المُجتمَع الإسلاميِّ وتحل مُشكِلاتِه.
ويَتجَلَّى هذا واضحًا بشكلٍ كبيرٍ في المجال الدَّعوِيِّ والإصلاحيِّ، وعلى سبيل المِثَال: فإنَّ النَّهْيَ عَن مُنكَرٍ مِن المُنكَراتِ مَشروطٌ بألاَّ يُؤدِّيَ إلى وُقُوع مُنكَرٍ أكبرَ؛ فإذا كان النَّهْيُ عَن تَرْك صلاة الجَمَاعة، أو عَن شُرْب الخمر، أو لَعِبِ المَيْسر مثلًا سيُؤدِّي إلى إزهاق الأنْفُس؛ وَجَبَ على المُحتَسِب التَّوَقُّفُ والكَفُّ عَن ذلك النَّهْيِ، والذي يُقَدِّر حجمَ الضَّرَرِ أوِ المُنكَرِ المُتَوَقَّعِ هُمُ الدُّعاةُ والمُصلِحون أنفُسُهم.
مِثالٌ آخرُ: المُسلِمون في الغَرْب، الذِينَ يَعِيشون هناك بوَصفِهم أقلياتٍ دينيةً وعِرْقِيَّة، أولئك المُسلِمون مُطالَبون بأنْ يُقِيموا مِن حُكْم اللهِ في تلك البلادِ ما يَستطِيعونَه، ووَفْقَ الأدواتِ المُتاحة. وأيُّ نظرةٍ مُتفحِصة لِواقِعهم تَنتَهي إلى أنَّ استخدام العنف مِن قِبَلِهم مِن أجْل الوصول إلى السُّلطة، أو فَرْضِ بعضِ التشريعاتِ الإسلامية سوف يَكُون بَالِغَ الضَّرَرِ عليهم، وسوف يُسِيء إليهم وإلى الإسلام، كمَا أنَّه لَن يُحقِّقَ أيَّ شيءٍ ممَّا يُريدُون.
في المقابل هناك طريقٌ مفتوح أو شِبْهُ مفتوح، وهو طريقُ العمل السياسي والتكتل في اتحادات وجمعيات مختلفة، ومهما كانت هذه الطريقُ طويلةً، فإنها أفضلُ مِن طريق استخدام العنف والقُوَّة.
وقد يَتَطَلب نجاحُهم في الانتخابات أنْ يَنشَطُوا في الدَّعْوة إلى اللهِ، وتَجميعِ الناس وحشدِهم حول برامجِهم، وحين يَقومون بذلك يَكُونون قد فَعَلوا ما هو مطلوبٌ منهم في إعلاء كلمة الله، وبَسْطِ حُكْمِه هناك في دِيَار الغَرْب، وهكذا نَجِد أنَّ الشريعةَ الغرَّاء فَوَّضَتْ لأهلِ العِلْم وأهلِ الحَلِّ والعَقْدِ تقديرَ الظروف التي سَيَتَحركون فيها، ويَرتَبط بتلك الظروفِ واجبُ الوقتِ مِن الإصلاح والدعوة وفِعْلِ الخير.
وهنا نقطةٌ مهمةٌ تَستَحِقُّ التَّنْوِيهَ، وهي أنَّ الشريعةَ الغرَّاء حين تُعَلِّق شيئًا مِن التكليف في مجال الإصلاح والدعوة بفَهْم الدُّعاةِ والمُصلِحينَ للوَاقِع، وتقديرِهم لها؛ فإنها تُوَفِّر حَيِّزًا واسعًا للاجتهاد واختلاف الرأْي؛ لأنَّ الواقِعَ الذي نُحاولُ فَهْمَه ذا طبيعةٍ هُلامِيَّة وزِئبقية، ومهما ظنَنَّا أنَّنا مُحيطُون به ومُدرِكون لتفاصيله، فإنَّنَا سنَجِد أنَّه يَتَفَلَّتُ مِن أيدينا ويَنغَلِق فَهْمُه علينا .
وانظر إلى اختلاف المُصلِحينَ في ترتيب الأَوْلَوِيَّات الإصلاحية، فَسَتَرَى أنَّ تَفَاوُتَ فَهْمِهم وتقييمِهم للواقِع يُعَدُّ السببَ الحاسِمَ في اختلافهم، وهذا يُشكِّل مُحرِّضًا للذهن على العمل، ويُوجِدُ نوعًا مِن السَّعَة في الحُكْم على الأشياء.
ولله الحمد والمِنَّة،،،
للحديث بقية.