ذكرتُ في مفتتح المقال السابق أن أمَّةَ الإسلام تواجه على صعيد الاستنارة واكتساب المعرفة تحدِّيَين أساسيَّين، وتحدَّثت عن أولهما وهو: إنتاج المعرفة المطلوبة للمعاصرة.
أما الثاني فيتمثَّل في نشر المعرفة وتعميمها. وهذا ما سأتحدَّث عنه اليوم.
لدينا على الصعيد الاجتماعي فكرةٌ جوهريَّة، هي أنه لا يعادل قوَّةَ الأفكار وصفاءها سوى إمكانيَّة نشرها؛ فالفكرةُ مهما كانت عظيمةً ومتألِّقة، تكون محدودةَ الفائدة والقيمة إذا لم ينجح تعميمُها على أعداد كبيرة من الناس بسبب بعض الاعتبارات المتعلِّقة بالفكرة نفسها.
وهذا المعنى يحتاج إلى أن يكونَ موضع اهتمام كلِّ أولئك الذين يقومون بالتنظير لإصلاح أوضاع العالم الإسلامي، إذ إن من المهمِّ أن ندرك مدى إمكانيَّة تطبيق الأفكار والنظريات التي نَعرضها على الناس، فنحن نعرفُ أن القيمَ والمبادئ والأفكار لا تعمل في فراغ، وإنما في إطار شروط وظروف ومعطَيات محدَّدة وملائمة.
وحتى تكون الفكرة واضحة أمثِّل بالمشروعات والأفكار التي طرحها أهل الخير والصلاح على صعيد توحيد أمَّة الإسلام، إذ إن من الملموس أن أياً منها لم يلقَ الاستجابة في أيِّ بلد إسلامي، مع أن الأمَّة كلها تتشوَّق إلى الوَحدة والاتحاد، ولكن المسألةَ ليست مسألة حبٍّ وشوق وإنما مسألة ملاءمة المشروعات الإصلاحية للظروف والأوضاع المحليَّة والإقليميَّة والدوليَّة.
إن نشر الوعي العامِّ وما يتطلَّبه ذلك من معارفَ ومعلومات ومفاهيم، يتطلَّب منا الكثير الكثير.
ولعل من ذلك الكثير ما يأتي:
1– نحن ندرك على نحو جيِّد أن أمة الإسلام حديثةُ عهد بأميَّة، فالأميُّون ما زالوا يشكِّلون نحواً من (30%) من المسلمين، كما أن كثيراً من الذين يقرؤون ويكتبون لا يبتعدون كثيراً عن الأميِّين بسبب تدنِّي مستواهم المعرفي وإعراضهم عن القراءة.
هذا كلُّه يعني أن علينا أن نحاول صياغةَ نوعين أو مستويَين من الخطاب :
أ – خطاب موجَّه لأصحاب الثقافة العليا من خرِّيجي الجامعات وطلاب الدِّراسات العليا، ومن قاربهم. وهذا الخطابُ يتناول المسائلَ الدقيقة والقضايا الفرعيَّة، كما أنه يعتمد سَوق البراهين المعقَّدة ويستخدم المفاهيم التي قد لا تكون مألوفة.
ب – خطاب تنويري تعليمي موجَّه إلى ذوي الثقافة الشعبيَّة والمتدنِّية، وهذا الخطاب يركِّز على الأساسيَّات، ويستخدم العاطفة في التأثير، وتكون تعبيراتُه سهلةَ الفهم، ولا يغوص نحو المسائل الفرعيَّة، كما أنه لا يطرح الرؤى الإستراتيجيَّة والقضايا الكبرى التي يشعر معظمُ الناس أنهم غيرُ قادرين على الإسهام فيها، لكنه يحاول إشعارَهم بأن هناك انحرافاتٍ وأخطاءً محددة، تحتاج إلى معالجة، ويسعى إلى مساعدتهم على حلها.
وإني أعتقد أن من الممكن اعتمادَ الكتب والمجلات بوصفها وسائلَ أساسيَّة في مخاطبة الصفوة، كما أن المقالات التي تُنشر في الشابكة (الإنترنت) تعدُّ وسيلةً ممتازة للوصول إلى الشباب الطامح والمتعلِّم.
أما الموادُّ المسموعة والمرئيَّة، فهي ملائمة جداً لكلِّ أولئك الذين يرغبون عن القراءة، ويزهدون في صُحبة الكتاب. ومن الواضح جدّاً أن أشرطة التسجيل (الكاسيت) والبرامج الجيِّدة التي تُبثُّ في الإذاعات والفضائيَّات – قد عرَّفت الناسَ بالكثير من أمور دينهم، ورفعت مستوى الوعي العامِّ لدى الخاصَّة والعامَّة.
ومن المهم أن أؤكِّد في هذا السِّياق أن استنارة الأمَّة تحتاج أن تتصف كلُّ الخطابات الموجَّهة إليها بالصِّدق والموضوعيَّة والدقَّة والتوازن والإنصاف، كما ينبغي أن تتَّسم بأكبر درجة ممكنة من الوضوح ووضع النِّقاط على الحروف. لا يصحُّ أبداً اللعب بعقول الناس وإخفاء الحقائق عنهم، كما لا يصحُّ تخدير مشاعرهم، بالعبارات التي تدلُّ على تفاؤل ليس له رصيدٌ من الواقع.
أضف إلى كلِّ هذا اتصاف الخطاب بـ(العمليَّة) فالأمَّة تعرف الكثير الكثير من فضائل الصلاح والاستقامة والتقدُّم، كما أنها تعرف الكثير الكثير من المبادئ والقيم والأخلاق المطلوبة لذلك، لكنها لا تعرف إلا القليل عن السياسات والبرامج والأساليب والأدوات التي ينبغي توفيرُها من أجل النُّهوض بجوانب الحياة المختلفة. ومن المهم أن أشيرَ إلى أن عدم الاهتمام ببحث هذه الأمور جعل تنظيرَنا للتقدُّم يتسم بالمثاليَّة ويمتلئ بالتكرار الذي يصلُ إلى حدِّ الابتذال!.
إن المطلوب على مستوى الخطاب هو أن ننتقل من (يجب) إلى (كيف)، ومن (المبادئ) و(الكلِّيَّات) إلى (الخطط) و(البرامج) و(الكيفيَّات)، فالناس يحتاجون حاجةً ماسَّة إلى من يدلُّهم على الطريق، ويساعدهم على المضيِّ فيه، ويوفِّر لهم الأدوات التي يمكن أن يستخدموها في كلِّ ذلك.
2- من المهمِّ أن يدرك صنَّاع الأفكار والمنظِّرون للتقدُّم أن هناك عقبةً كؤوداً تحول دون تحقيق تواصُلهم مع الجماهير العريضة، وتلك العقبةُ تتمثَّل في إعراض معظم الشباب المسلم عن القراءة والاطِّلاع. إذ ما الفائدةُ من الكتب العظيمة التي نؤلِّفها إذا كان الناس الذين نظنُّ أنهم يحتاجون إليها معرضين عنها؟! وما فائدةُ الأنوار الساطعة إذا كانت توقَد في دار يسكنُها العُميان؟.
نحن نخطئ كثيراً إذا كنا نظنُّ أن الناسَ بطبعهم يميلون إلى تكبُّد مشاقِّ التعلُّم والتفكير، فالأمر ليس كذلك، فحبسُ النفس على معالجة الأفكار، والجلوسُ الساعات الطويلة من أجل زيادة المعرفة الشخصيَّة... يحتاجان إلى تربية وبيئة ملائمة وإلى مجاهدة للنفس.
وفي إمكاني القول: إن إعراضَ الإنسان المسلم عن القراءة هو أحد مُفرزات التخلُّف الذي نعانيه , وإذا أردنا التفصيل فيمكن أن نقول: إن البيئة المنزليَّة خالية أو شبهُ خالية من التقاليد الثقافيَّة التي تمجِّد العلم، وتغرس حبَّه في نفوس الصغار، كما أن ظروفَ احتكاك معظم أبنائنا مع الكتاب في المدارس هي ظروف محبطة وسلبيَّة، أضف إلى هذا أن معظمَ الوظائف والأعمال في ديار المسلمين لا تحتاج ممارستها إلى الازدياد من المعرفة، وإذا أردنا للاستنارة العامَّة أن تتوقَّد من جديد، فلابدَّ من معالجة هذه القضايا على النحو الصحيح.
والله الموفِّق
للحديث صلة