البشارات تؤكد نبوة النبي الموعود بالحوادث التي تجري معه:
البشارات الواردة فصلت جوانب مختلفة من شخصية النبي الموعود، ومن ضمن الأمور التي أماطت عنها اللثام ذكر حوادث جرت معه بما لا يدع مجالاً للشك بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعني بها، وإليك طرفاً من هذه البشارات:
أولاًـ يُسْرى به إلى المسجد الأقصى، ويعرج به إلى السماء: "هأنذا أرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي ويأتي بغتة إلى هيكله السيدُ الذي تطلبونه، وملاك العهد الذي تُسرُّون به هو ذا يأتي قال ربُّ الجنود"[1]، وتشير النبوة إلى النبي الموعود الذي سيأتي فجأة إلى الهيكل بصحبة الملاك، وقد أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى ومعه جبريل عليه السلام .
أما عن المعراج فقد جاء في رؤيا دَانِيآل: "كنت أرى في رؤى الليل سحب السماء مثل ابن الإنسان، أتى وجاء إلى القديم الأيام فقرَّبوهُ قُدَّامَهُ، فأُعْطِيَ سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزولَ ومَلَكُوتُهُ ما لا ينقرض"[2]، ويفسر النصارى هذا النص على أنها مسير رمزي لناسوت المسيح عليه السلام في مراحل هذه الحياة حتى استقر في السماء[3]، والنص يشير إلى إعطاء ملكوت الله في الأرض وهذا ما سيفسره النصوص التالية عند الحديث عن ملكوت الله، والمسيح عليه السلام لم يعط ملكوتًا في الأرض.
ثانيًاـ يخرج من بلدته مهاجرًا ويتعقبه قومه ثم ينتصر عليهم: جاء في سفر (إشَعْيَا): "وحي من جهة بلاد العرب، في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الدادانيين، هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء، وافوا الهارب بخبزه، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدود، من أمام شدة الحرب، فإنه هكذا قال لي السيد: في مُدَّةٍ سنةٍ كسنةِ الأجير يَفْنى كُل مجدِ قِيدَار، وبقيَّةُ عدد قِسيِّ أبطال بني قِيدَار تَقِلُّ؛ لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم"[4].
"وافوا الهارب بخبزه": يتحدث هذه البشارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الهجرة الميمونة، وكيف أنه صلى الله عليه وسلم نجاه الله من كفار قريش بعد أن أضمروا له الشر، ووضعوا في يد كل فتى سيفًا ليضربوه ضربة رجل واحد ليضيع دمه بين القبائل، "في مُدَّةٍ سنةٍ كسنةِ الأجير يَفْنى كُل مجدِ قِيدَار": إشارة إلى موقعة بدر التي حصلت بعد الهجرة بسنة، وفي تلك الغزوة انتصر الحق وانهزم صناديد قريش - أبناء قِيدَار- أصحاب الأقواس لأنهم رماة، وقد أشرق نور الإسلام، ولايمكن أن تنطبق هذه البشارة على سيدنا عيسى عليه السلام بوجه من الوجوه.
ثالثًاـ جملة من معجزات جرت على يديه: يهتز جسدي وأنا أقرأ ترنيمة حَبَقُّوق في صلاته - وهي ترنيمة حزن، أو ترنيمة تائه، يظهر فيها شجونه وجزعه لزوال النبوة من بني إسرائيل - يدعو الله تعالى أن يرسل الرحمة المهداة لإنقاذ البشرية: "يارب قد سمعت خبرك فجزعتُ، ياربُّ عملكَ في وسط السنين أَحْيِهِ، في وسط السنين عَرّفْ، في الغضب أذكر الرحمة، الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فَارَان، سِلاهُ جلالُهُ غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور له من يده شُعاع، وهناك استنار قُدْرَته، قُدَّامه ذهب الوباء، وعند رجليه خرجت الحُمى، وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم، ودُكت الجبال الدهرية، وخسف آكام القدم، مسَالِكُ الأزل له، رأيتُ خيام كُوشان تحت بَلِيَّةٍ، رجفت شُقَقُ أرض مِدْيان .... سلكت البحر بخيلك كوم المياه الكثيرة، سمعتُ فارتَعَدَتْ أحشائي من الصوت رجفت شفتاي، دخل النخر في عظامي، وارتَعَدْتُ في مكاني لأستريح في يوم الضيق عند صُعُودِ الشعب الذي يَزْحَمُنا، فمع أنه لا يزهر التين، ولا يكون حمل في الكُرُم، يكذب عمل الزيتونة، والحقل لا تصنع طعامًا، ينقطع الغنم من الحظيرة، ولا بقر في المذاود فإني ابتهج بالرب، وأفرح بإله خلاصي"[5].
"وكان لمعان كالنور من يده شعاع" إشارة إلى ما كان في يوم خندق عندما أعجزت الصخرة الصحابة أثناء حفر الخندق فجاء رسول صلى الله عليه وسلم وحطمها، قَالَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنْ الخَنْدَقِ لا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، قَالَ: فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: عَوْفٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَضَعَ ثَوْبَهُ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ) فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ وَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا)، ثُمَّ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ)، وَضَرَبَ أُخْرَى، فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا)، ثُمَّ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ)، وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا)[6]، "قدامه ذهب الوباء، وعند رجليه خرجت الحُمى": بشارة صريحة لا تحتمل التأويل فالمدينة المنورة قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم كانت معروفة بالحمَّى، وببركته دعائه خرجت منها، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ)[7]، "ودُكت الجبال الدهرية": وهي بشارة صريحة إلى جبل أحد حين رجف، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ tحَدَّثَهُمْ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَعِدَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَالَ: (اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ)[8]، "سلكت البحر بخيلك كوم المياه الكثيرة": بشارة صريحة بالجيش الإسلامي الذي فتح البحرين بقيادة علاء بن الحضرمي، وكان من سادات الصحابة العلماء العباد مجابي الدعوة، وقد تعقب فلول المرتدين حتى وصلوا إلى ساحل البحر، "فرأى أن الشقة بعيدة لا يصلون إليها في السفن حتى يذهب أعداء الله، فاقتحم البحر بفرسه وهو يقول: يا أرحم الراحمين، يا حكيم يا كريم، يا أحد، يا صمد، يا حي يا محيي، ياقيوم، ياذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت يا ربنا، وأمر بالجيش أن يقولوا ذلك ويقتحموا، ففعلوا ذلك فأجاز بهم الخليج بإذن الله يمشون على مثل رملة دمثة فوقها ماء لا يغمر أخفاف الإبل، ولا يصل إلى ركب الخيل ... فقطعه إلى الساحل الآخر فقاتل عدوه وقهرهم"[9]، "لأستريح في يوم الضيق عند صُعُودِ الشعب الذي يَزْحَمُنا، فمع أنه لا يزهر التين، ولا يكون حمل في الكُرُم، يكذب عمل الزيتون": في هذا النص إشارة لأمة جديدة، وغروب نجم بني إسرائيل، فالتين والكرم إشارة إليهم كما أسلفنا، وقد كان اليهود يسألون عيسى عليه السلام هل أنت هو؟ فيجيبهم لا، وجاء عند ابن قتيبة في النص السابق زيادة: "وامتلأت الأرض من تحميد أحمد"، وعلق على ذلك فقال: وهذا إفصاح باسمه وصفاته، فإن ادَّعوا أنه غيره، فمن هذا الذي امتلأت الأرض من تحميده، الذي جاء من جبال فاران فَمَلَكَ رقابَ الأمم"[10].
------------------------------------
[1] - ملاخي، 3: 1.
[2] - دَانِيآل، 7: 13 ـ 14 .
[3] - راجع ، طلبة، محمد صلى الله عليه وسلم في الترجوم والتلمود والتوراة، ص/ 168.
[4] - إشعيا، 21 : 13 ـ 17 .
[5] - حبقوق، 3.
[6] - رواه الإمام الأحمد في، مسنده، 4/ 303، إسناده ضعيف فيه ميمون الكندي وهو ضعيف الحديث، والبيهقي في ،الدلائل، 3/421.
[7] - رواه مالك في ،الموطأ، الجامع/ ما جاء في وباء المدينة، ح(2867)، 2/ 316 ـ 317، وإسناده متصل ورجاله ثقات على شرط الشيخين، ورواه مسلم مختصراً في ، صحيحه، الحج/ 86، ح(1376)، 2/ 1003 .
[8] - رواه البخاري في صحيحه: أصحاب النبي/ 5، 4/ 197.
[9]- ابن كثير، البداية والنهاية، 6/ 329.
[10] - أعلام رسول الله المنزلة على رسله، لوحة، (3)