الصيام في شعبان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير مبعوث رحمة للعالمين، سيد ولد آدم أجمعين؛ محمد بن عبدالله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أما بعد:
الصيام هو: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع نهاراً مع النية1، وقيل: هو الإمساك عن المفطرات على قصد التقرب.2
وقد ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه كان يصوم كثيراً في شهر شعبان، وشهر شعبان من أحب الشهور إلى الله التي يُصام فيها، ومن الأحاديث الواردة في صيام النبي - عليه الصلاة والسلام - ما جاء عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان))3، وفي رواية: ((كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا))4، وقد رجح طائفة من العلماء منهم ابن المبارك وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -لم يستكمل صيام شعبان وإنما كان يصوم أكثره، ويشهد له ما في صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((ما علمته - تعني النبي صلى الله عليه وسلم - صام شهراً كله إلا رمضان))5، وفي رواية له أيضاً عنها قالت: ((ما رأيته صام شهراً كاملاً منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان))6، وفي الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ((ما صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً كاملاً غير رمضان))7، وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ فقال: ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم))8، وفي رواية: ((كان أحب الشهور إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان))9 صححه الألباني.10
قال ابن رجب - رحمه الله -: "صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم"11.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين؛ فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم))12 يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان - الشهر الحرام وشهر الصيام - اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولاً عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان لأن رجب شهر حرام، وليس الأمر كذلك.
وفي الحديث السابق إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، وفيه دليل على استحباب عِمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة، ويقولون هي ساعة غفلة، ومثل هذا استحباب ذكر الله - تعالى - في السوق لأنه ذكْر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة، وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد منها:
- أن يكون أخفى للعمل، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لاسيما الصيام فإنه سرّ بين العبد وربه، ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء، وكان بعض السلف يصوم سنين عدداً لا يعلم به أحد، وكان يخرج من بيته إلى السوق ومعه رغيفان فيتصدق بهما ويصوم، فيظن أهله أنه أكلهما، ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته، وكان السلف يستحبون لمن صام أن يُظهر ما يخفي به صيامه، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "إذا أصبحتم صياماً فأصبِحوا مدَّهنين"13، وقال قتادة - رحمه الله -: "يستحب للصائم أن يدَّهِن حتى تذهب عنه غبرة الصيام"14.
وكذلك فإن العمل الصالح في أوقات الغفلة أشق على النفوس، ومن أسباب أفضلية الأعمال مشقتها على النفوس لأن العمل إذا كثر المشاركون فيه سهُل، وإذا عظمت الغفلة شق ذلك على المتيقظين، وفي من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه - مرفوعا: ((العبادة في الهرْج كالهجرة إلي))15 أي: العبادة في زمن الفتنة؛ لأن الناس يتبعون أهواءهم فيكون التمسك بالدين أشق.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل شعبان وعليه بقية من صيام تطوع لم يصمه قضاه في شعبان حتى يستكمل نوافله بالصوم قبل دخول رمضان - كما كان إذا فاته سنن الصلاة أو قيام الليل قضاه -، فكانت عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما عليها من فرض رمضان حينئذ لفطرها فيه بالحيض، وكانت في غيره من الشهور مشتغلة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فيجب التنبه والتنبيه على أن من بقي عليه شيء من رمضان الماضي فيجب عليه صيامه قبل أن يدخل رمضان القادم، ولا يجوز التأخير إلى ما بعد رمضان القادم إلا لضرورة مثل: العذر المستمر بين الرمضانين، ومن قدر على القضاء قبل رمضان ولم يفعل فعليه مع القضاء بعده، والتوبة، إطعام مسكين عن كل يوم، وهو قول مالك والشافعي وأحمد.
وكذلك من فوائد صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، فيدخل رمضان بقوة ونشاط.
ولما كان شعبان كالمقدّمة لرمضان فإنه يكون فيه شيء مما يكون في رمضان من الصيام وقراءة القرآن والصدقة، قال سلمة بن سهيل: كان يقال: "شهر شعبان شهر القراء"، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: "هذا شهر القراء"، وكان عمرو بن قيس المُلائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته، وتفرغ لقراءة القرآن.
الصيام في آخر شعبان:
ثبت في الصحيح عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: ((هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومين))16، وفي رواية البخاري: ((أظنه يعني رمضان))17، وفي رواية: ((هل صمت من سرر شعبان شيئاً؟))18.
وقد اختلف في تفسير السرار، والمشهور أنه آخر الشهر، يقال سَِرار الشهر بكسر السين وبفتحها، وقيل إن الفتح أفصح، وسمي آخر الشهر سرار لاستسرار القمر فيه - أي: لاختفائه -، فإن قال قائل: قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين، إلا من كان يصوم صوماً فليصمه))19، فنجمع بين حديث الحثّ وحديث المنع بأن الرجل الذي سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أن له عادة بصيامه، أو كان عليه نذر فأمره بقضائه، أوكان عليه قضاء فأمره بقضائه، والله أعلم.
وبالجملة فحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السالف الذكر هو المعمول به عند كثير من العلماء، وأنه يكره التقدم قبل رمضان بالتطوع بالصيام بيوم أو يومين لمن ليس له به عادة، ولا سبق منه صيام قبل ذلك في شعبان متصلاً بآخره.
ويوم الشك: هو اليوم الذي يشك فيه هل هو من رمضان أم لا؟ وهو الذي أخبر برؤية هلاله من لم يقبل قوله، قالت الحنفية20؛ والمالكية21؛ والشافعية22، والحنابلة23: أنه يكره صومه، واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه و سلم -: ((لا يصام اليوم الذي يشك فيه من رمضان إلا تطوع))24، وبحديث: ((من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم))25، فيكره صيام يوم الشك لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك كما تقدم.
والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
--------------------------------------------------------------------------------
1 الكتاب (1/130)؛ واللباب في شرح الكتاب (1/82)؛ وبدائع الصنائع (2/274).
2 الهداية (1/335).
3 رواه البخاري برقم (1833)، ومسلم برقم (1956).
4 رواه مسلم برقم (1957).
5 صحيح مسلم (2/809) برقم (1156)؛ وسنن النسائي (4/ 152) برقم (2184)؛ ومسند أحمد برقم (25424).
6 صحيح مسلم (2/809) برقم (1156)؛ وسنن النسائي (4/152) برقم (2183)، وقال الشيخ الألباني: صحيح.
7 أخرجه البخاري برقم (1971)؛ ومسلم برقم (1157).
8 سنن النسائي (4/201) برقم (2357)؛ ومسند أحمد بن حنبل (5/201)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن برقم (21801)؛ وسنن النسائي الكبرى (2/120) برقم (2666)؛ وأنظر: صحيح الترغيب والترهيب للألباني ص 425.
9 صحيح ابن خزيمة (3/282) برقم (2077)، وقال الأعظمي: إسناده صحيح؛ المستدرك (1/599) برقم (1585).
10 أنظر: صحيح سنن أبي داود (2/461).
11 لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي (1/138).
12 سنن النسائي (4/201) برقم (2357)؛ مسند أحمد بن حنبل (5/201)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن, برقم (21801)؛ وسنن النسائي الكبرى (2/120) برقم (2666).
13 مصنف ابن أبي شيبة (2/345) برقم (9757).
14 مصنف عبد الرزاق (4/ 313) برقم (7912).
15 سنن الترمذي (4/489) برقم (2201)؛ قال الشيخ الألباني: صحيح؛ وصحيح ابن حبان (13/289) برقم (5957)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي.
16 صحيح مسلم (2/818) برقم (1161، 1162).
17 صحيح البخاري (2/700) برقم (1882).
18 سنن أبي داود (1/711) برقم (2328)؛ ومسند أحمد بن حنبل (4/443) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة فمن رجال مسلم .
19 صحيح مسلم (2/ 762) برقم (1082)؛ وسنن النسائي (4/ 149) برقم (2174)؛ ومسند أحمد بن حنبل (2/477) برقم (10187)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين؛ وصحيح ابن حبان (8/93) برقم (3299)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم؛ المنتقى لابن الجارود (1/ 103) برقم (378).
20 بدائع الصنائع (2/215)؛ وحاشية الطحاوي على المراقي (2/ 637)؛ والهداية (1/ 117).
21 بداية المجتهد (1/443).
22 الأم (7/222)؛ والمهذب (1/ 344)؛ ومغني المحتاج (4/ 362)؛ وكفاية الأخيار (1/ 285).
23 المغني (3/6)؛ والكافي في فقه ابن حنبل (1/450)؛ ومنار السبيل (1/159)؛ والإنصاف (3/270، 348).
24 نصب الراية للزيلعي (2/319)، وقال: غريب جداً.
25 صحيح البخاري (2/673)، وسنن أبي داود (1/713) برقم (2334)، وقال الشيخ الألباني: صحيح؛ وسنن النسائي (4/153) برقم (2188)؛ وسنن الترمذي (3/70) برقم (686)، وقال أبو عيسى: حديث عمار حديث حسن صحيح، قال الشيخ الألباني: صحيح.